نابلس – وكالات
تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية الحادية عشرة لاستشهاد الصحافي نزيه دروزة خلال اجتياح قوات الاحتلال لمدينة نابلس شمال الضفة الغربية.
فلم تكدْ ساعات صباح يوم 19 أبريل 2003، تحمِل للمواطنين الفلسطينيين في نابلس نبأ عن توغّلٍ جديد للجيش الصهيونيّ في قلب المدينة حتى جاءتهم الساعات التالية بنبأ أكثر صدمة و إيلاماً و وحشة .
فقد حملت لهم الأنباء مع عودة التيار الكهربائيّ الذي قد انقطع عن المدينة خبر استشهاد أحد الوجوه التي اعتادوا رؤيتها و رحيل صوتٍ كانوا يأنسون بسماعه في أشدّ الأوقات حلكة .
لو أبصرت عينيك لاعتذرت :
يذكر المصوّر الصحافي سامي العاصي أنّه قد خرج في ساعات الصباح بصحبة زميله نزيه لتغطية أحداث الاجتياح الجديد للمدينة و أنّهما قد توجّها إلى منطقة مدرسة الفاطمية حيث آليات الجيش الصهيونيّ تحاصر البلدة القديمة ، و أنّ الشهيد نزيه المعروف بجرأته غير العادية و تعريض نفسه لمخاطر مهلكة في سبيل نقل الصورة الحقيقية و عرض الأحداث بحيادية تامة و مهنية خالصة بعيداً عن التهيّج و الشحن كان يرتدي بدلته الصحافية المعروفة دولياً و التي يمكن إبصارها في أحلك ساعات الظلام و قد أعطى إشارة لجنود الآليات العسكرية بنيّته للتجاوز من حيٍّ إلى آخر قبل أنْ تنطلق رصاصة من فوهة إحدى البنادق الصهيونيّة لتستقرّ في رأسه و تتفجِر و يتناثر دماغه على الأرض .
استشهد نزيه على الفور ، حيث روى طبيب التشريح في مستشفى رفيديا الذي نُقِل إليه الشهيد أنّ الرصاصة قد تركت في رأسه حفرة بعمق ثمانية سنتمترات .
آخر اللحظات :
يروي عددٌ من الصحافيين في مدينة نابلس أنّ الشهيد نزيه كان بالنسبة لهم جميعاً أحد مصادر المعلومات الدقيقة ، فهو دائماً ينتقل وراء الحدث ، و لا يبالي بالمخاطر المترتبة على ذلك و هذا ما جعل قسماً كبيراً منهم يتحدّث إليه ذات الصباح الذي استشهد فيه ، في حين تحدّث بصوته إلى جماهير نابلس أكثر من خمس مراتٍ خلال نفس الوقت عن طريق إذاعة راديو نابلس المحلية و بقيَ يُطلِع المواطنين على آخر الأحداث و مستجدّاتها قبل أنْ يتحوّل بنفسه إلى أهمّ الأنباء التي تنتشر تاركة الصدمة بين الجميع على رحيله .
فقد توقّف الصحافيون طويلاً مشدوهين لما جرى بين من يتمنّى أنّ ما حدث كان كابوساً و من لم يجزم أنّ الجثمان المحمول على الأكتاف هو جثمان رجلٍ لم يغِبْ عن تشييع المئات من شهداء المحافظة ، و لعلّ ذلك ما جعله محل قبولٍ و إجماعٍ من قِبَل مختلف الصحافيين في المدينة حيث كان حريصاً على التواصل مع الجميع يحمِل رسالة العمل الصحافي الحرّ فاتحاً أبواب حسن المعرفة بما يجري أمام الجميع من خلال صوره التي لا تغيب يومياً عن وكالة “الأسوشييتد برس” و صوته المتابع لكلّ جديدٍ في الأحداث من خلال تلفزيون فلسطين ، و هذا ما ترك لموكب تأبينه هيبة كبيرة اقشعرت لها أبدان المواطنين و هم يتابعون مناظر الصحافيين يحملون جثمان أخيهم في موقفٍ إنسانيّ دون إعارة انتباه لكون ما يجري هو في صلب عملهم ، فالموقف أكبر من التقاط صورة أو تسجيل حديثٍ أو كتابة لقاء صحافيّ حول الشهيد .
بكاه من لم يعرفه :
و في إحدى اللقطات المثيرة للمشاعر الإنسانية وقفت إحدى متطوّعات الحماية الأجنبية و هي تبكي بكاءً حاراً و تنقل نظرها بين جثمان الشهيد المغطّى ببزته الصحافية و بين من يرتدون تلك البزّات و يسيرون في جنازته و هي تقول : “أيّ عملٍ هذا الذي يدفع صاحبه حياته ثمناً لنجاحه” .
لم تكنْ تلك المتطوّعة تعرف الشهيد و لو أنّها عرفته لبكته أكثر ، ربما إنها سمعت عن صولاته و جولاته بين أزقة البلدة القديمة خلا الاجتياحات ، ربما سمعت كذلك عن اتخاذه درعاً بشرياً من قِبَل الجنود أكثر من مرة لتغطية تحرّكاتهم و جعله يدفع الثمن عن متابعته للحدث ، و ربما سمعت عن أطفاله الخمسة الذين لن يعود إليهم ذلك المساء ، و لكنّها بالتأكيد قد علمت أنّ لحياة الفلسطينيّ لوناً آخر و معنى مختلفاً عن ما ألِفت الشعوب و عرفت الإنسانية ، فكيف يصبح الصحافي المحايد هدفاً للرصاص و عرضة للموت و القتل بدمٍ بارد و دون أدنى اكتراث لأيّ قيمة إنسانية أو اعتبارٍ لأيّ ضمانٍ حقوق دولي أو التفاتٍ للشرائع الأخلاقية التي يجب أنْ تكفل للصحافيين حرية العمل خلال مواسم الحروب ، فقط منطق القوة هو الذي يجيب و هو الذي يرسم السياسات و هو الذي يحدّد أثمان الأرواح البشرية التي غالباً لا وزن لها و لا قيمة عندما يعلو هدير المدافع و أصوات الرصاص .
انتكاسة جديدة :
لقد فتح استشهاد نزيه جروح الأوساط الصحافية التي لم تندمل بعد ، رحيل صحافيّ المستقبل فادي علاونة قبل أسبوعٍ و هو طالبٌ في قسم الصحافة في جامعة النجاح ، ففي تأبين ذلك الصحافي المنتظر كان نزيه رجل الموقف كذلك كان على قيد الحياة يحمل صورة الشهيد فادي و يتحدّث عن رحيله قبل أنْ ينجز أيّ جزءٍ من مشواره و كأنّه يريد أن يقول لماذا لا يعطونه الفرصة ليتحدّث إلى العالم و يحقّق حلمه كأيّ طالبٍ في علوم الصحافة ، لماذا يغلق الباب أمام قلمٍ جديدٍ و فكرٍ جديدٍ يبحث عن أيّ أملٍ في دورٍ يلعبه ليؤدّي رسالته المهنيّة .
أمّا اليوم فقد وقفت حشود الصحافيين كلّها تبكي من جديد فارساً آخر رحل دون وداعٍ و دون أنْ يلتقط لنفسه صورة تذكارية و هو المبدع في التقاط تلك الصور و كأنّه اكتفى بأنْ يهَبَ حياته لالتقاط الصور للآخرين و إرسالها إلى من يعيشون في وادٍ آخر لعلّها تحدِث في ضمائرهم أمراً ما زال الكثير يحسبه بعيد الحدوث .
استشهد نزيه الشاهد الدائم على الأحداث و لكن كم شاهداً وقف يروي تلك الحكاية عن استشهاده و ينقل الصورة التي كان قتله يهدف إلى حسمها ؟!! .
ردود الفعل :
أميز ردود الفعل على جريمة اغتيال الصورة التي ينقلها الشهيد نزيه دروزة رسمها حديث المصوّرين الصحافيين المرافقين له سامي عاصي و بلال بانا و حسن التيتي و فارس فارس و عبد الرحيم قوصيني ، فقد اعتادوا التجوّل معاً و التنقّل بين الجنود بأوضاعهم القتالية ، حيث يروي المصوّر الصحافي سامي العاصي عن زميله الشهيد نزيه كيف كان كلٌّ منهم يشجع الآخر لاتخاذ وضعية أفضل للحصول على الصورة دون أنْ يجد الخوف في نفوسهم مكاناً أو إلى قلوبهم طريقاً .
أما المؤسسات الصحافية فقد كانت أشدّ المتأثّرين بالحدث كفاقده لأحد أعمدتها الإعلامية ، فقد رأت نقابة الصحافيين في استشهاد نزيه إمعاناً في الجريمة المقصودة و حجب الحقائق عن الأنظار كجريمةٍ بشعة تمارس أمام سمع العالم و بصره .
أمّا كتلة الصحافي الفلسطيني فقد أصدرت بياناً نعت فيه الشهيد نزيه و وصفت في استشهاده تأكيداً على سياسة الصهاينة في استهداف الإنسان الفلسطينيّ بإنسانيّته و إبداعه و قدراته و أفكاره و أنها سياسة مرسومة و منهجية يؤكّدها سقوط 9 شهداء صحافيين منذ بدء الانتفاضة . كما أصدرت القوى و المؤسسات و الفصائل الوطنية بياناتٍ تنعى فيها الشهيد نزيه و تؤكّد أنّ استشهاده خسارة كبيرة للشعب الفلسطينيّ .