غزة – علاء الحلو
لم تمنع الإصابة التي تعرض لها المصور الصحافي فضل شناعة عام 2007 من استمرار العمل في مهنة التصوير الصحافي واضعاً أولوية كشف جرائم الاحتلال ونقلها للرأي العام الدولي، حتى كانت آخر لقطة له تلك التي وثقت جريمة استهدافه.
في بيت من الاسبست بمخيم خان يونس ولد فضل بتاريخ 27/3/1984 للمواطن صبحي عبد الرحمن شناعة المهاجر من قرية تل الترمس, وسط جو عائلي حميمي لطيف, يملؤه الحب ويغطيه الترابط الأسري الجميل في لوحة رائعة لعائلة فلسطينية بسيطة.
التحق فضل في روضة بسيطة بإحدى البيوت في خان يونس حيث كانت الانتفاضة الأولى تشكل خطرا على تنقل الأطفال بحرية وسلاسة ولم تكن رياض الأطفال في حينها منتشرة بشكل كبير, ودرس الابتدائية في مدرسة الشيخ جبر والإعدادية في مدرسة عبد الله الحوراني والثانوية في هارون الرشيد والتي تخرج من الثانوية العامة فيها, والتحق بمقاعد الدراسة في جامعة الأقصى تخصص صحافة وإعلام وتخرج منها عام 2005-2006, والتحق بعدها بجامعة الأزهر ليدرس دبلوم إذاعة وتلفزيون.
بدأ فضل بالعمل في مجال الصحافة مع عمه شمس الدين متدرباً خلال فترة دراسته الجامعية وما قبلها, وكان يتقاضى راتبا بسيطا, حتى أصيب عام 2007 بجروح بالغة لم تمنعه من استمرار العمل بعد التعافي.
ويقول والده :” كنت دائماً أشجعه على مهنته لأنها توصل رسالة إنسانية ووطنية على الرغم من خطورتها الكبيرة, كنت دائماً أوصيه بالانتباه في عمله خاصة بعد أن أصيب إصابة بالغة قبل استشهاده بعام تقريباً والتي أجريت له على إثرها العديد من العمليات لإخراج الشظايا من عينيه”.
استشهاده
واستشهد فضل في 16/4/2008 أثناء قيامة بواجبة الانساني في نقل الحقيقة بالقرب من منطقة وادي غزة، حيث تم استهدافه بطريقة مباشرة بقذائف الاحتلال.
ففي الشارع المؤدي لجحر الديك كان الصحفي شناعة قد أكمل استعداده لالتقاط الصورة لدبابة …التقطها و كان الثمن حياته… فقد مزقت القذيفة رقبته و درع الحماية الذي كان يلبسه و أكملت قذيفة أخري المشهد فدمرت الجيب الذي كان يقوده، ويستشهد نحو 8 مواطنين حوله.
ويروي زميله أشرف أبو عمرة الذي أصيب في الحادث، تفاصيل الجريمة، “بالقرب من جسر وادي غزة سمعنا صوت انفجار و شاهدنا عددا من الأطفال يعتلون الجسر فقلت لزملائي علينا دخول الطريق الفرعي المؤدي لمنطقة جحر الديك فقد ارتكبت مجزرة أخرى الآن دخلنا الشارع لمسافة 50 مترا و اذا بالصحفي وفا الذي كان يرافق فضل مصابا بشظيتين من القذيفة التي قتلت فضل و كان فضل قد طلب منه إبعاد الأطفال من حوله خوفا علي حياتهم وحتي يتمكن من مزاولة عمله خلال ذلك كانت القذيفة قد أطلقت ولكن وفا هذه المرة لم يكن يجري بعيدا كي يبعد الأطفال عن فضل لكنه كان يستنجد بسيارة إسعاف لإنقاذ حياة فضل و قد صورناه و قلت لزملائي علينا أن نتقدم و استمرينا في تصوير الجثث الملقاة على الأرض و نتقدم لنرى ما جري لفضل و قبل عشرين مترا من الوصول لفضل الملقى علي الأرض قمنا بالزوم بالتصوير للجيب و للإصابات و الشهداء و من بينهم فضل شناعة و نحن ذاهبون نحوهم أطلقت طائرة استطلاع صاروخا آخر فكان انفجار كبير قد هز المنطقة و تصاعد الدخان فاستهدف القصف الآن الأطفال الذين كانوا بجوار فضل لحظة القصف الجديد نمنا على الأرض و بعدها قمنا بتفحص أنفسنا اذا اصبنا أم لا و استمرينا بالتقدم باتجاه الجيب يضيف أشرف قبل الوصول للجيب قلت لزملائي المكان خطير علينا عدم التقدم و اذا بسيارة إسعاف قادمة للمكان فتجرأنا و تقدمنا نحو فضل و لكن فضل كان في ذمة الله يحتضن الكاميرا و الستاند بين ذراعيه و هو ملقى علي الأرض فقام سائق الإسعاف برفع الكاميرا من بين ذراعي فضل كان فضل ينزف و قد أصيب إصابة بالغة بالرقبة و قد تمزق الدرع الذي يرتديه و كانت الكاميرا كأحد أبنائه بين ذراعيه.
كان فضل يجهز نفسه ويرتب أوضاعه للزواج, فاشترى شقة في حي تل الهوى بمدينة غزة وبدأ أهله يفكروا بالبحث له على عروس مناسبة, وقبل استشهاده بأسبوعين احتفل مع أصدقائه وأقاربه بعيد ميلاده, وقال لهم “هذا آخر عيد ميلاد لي”, وكأنه كان يشعر بأنه سيفارق الدنيا بعد أيام.
ذكريات
نشأ فضل في ذلك الحين يعيش في بيت من الاسبست بين ثلاثة من إخوته وأخواته وهم شيرين ومحمد ويسرا, وجاء بعدهم يوسف ووسام وأميرة, يقول والده “عند ولادة فضل كنت أعمل داخل الخط الأخضر في الدهان والبناء والمطاعم, كانت أمور حياتنا تسير على ما يرام وكنا نُسَير الأيام بالقدر الذي يمكننا توفيره من العمل.
وأضاف “فضل ابني كان هادئاً جداً وبسيطاً وطيباً ومحبوباً ولم يكن مشاغباً, وكان يحب النوم مبكراً لدرجة أنه كَبُر وهو يحب أن ينام بعد العشاء مباشرة, كنت أصطحبه معي إلى المسجد دائماً وفي بعض الأحيان كان يهرب مني, لكني كنت ألحق به وأمسك به كي ينشأ نشأة سليمة ملتزمة ملؤها الصلاة وقراءة القرآن وحفظه”.
لم أكن أعرف الكثير عن أسرار فضل لأنه كان كتوما جداً لكنه يحدث أمه بأسراره, وبعد تخرجه من الثانوية العامة انتقل من خان يونس إلى مدينة غزة ليسكن مع أخيه محمد وعمه شمس حتى ينخرط في الحياة العملية بشكل أكبر, وكنت أنا ووالدته نذهب كل يوم جمعة لزيارتهم ونصطحب معنا الطعام.
الوالدة روضة أبو عامر
كان الجو ربيعي جميل عندما ذهبت برفقة عمتي لولادة فضل, ولحظته ولادته أعجبت الممرضة بجماله, وقالت لي أن طفلي جميل وشعره طويل, فمازحني عم فضل حينها وقال لي أنه مع مرور الأيام سيصبح أسمر وغير جميل, فقلت له أنه سيظل جميلاً مثل جده, وفي يوم أسبوع فضل وقعت الشمعة عليه وأحرقت جزء من فراشه, ولكنه لم يصب بأذى.
كان فضل هادئ وجرئ, ولا يخاف من الظلام, وعندما كبر أصبح يذهب إلى الروضة برفقة أخته وسام التي تصغره بعام تقريباً, وبعد ذلك سجلناه في المدرسة وكان مجتهداً ويحضر دروسه بشكل يومي ويكتب واجبه دون أن أشعر بأي عناء في طلب ذلك منه, ولم تأتي في يوم من الأيام أي شكوى بحقه من المدرسة أو المدرسين.
هدمت قوات الاحتلال بيتنا في مدينة خان يونس ولم تبقي سوى غرفة واحدة, عشت فيها أنا وزوجي وسبعة من أبنائي من بينهم فضل لمدة عدة سنوات, كان أصدقاء فضل يحبوه, ويقضوا وقتاً طويلاً برفقته وكان يحب الإذاعة المدرسية وله عدة صور وهو يشارك فيها, وله صورة يركب فيها على دراجة هوائية, وكتب على ظهر إحدى الصور التي يركب فيها دراجة “كنت أتمنى عليك يا أبي أن تشتري لي دراجة”, فتأثر والده حين قرأ هذه الكلمات واشترى له دراجة.
صيد العصافير وتربية الحمام والطيور والحيوانات الأليفة كانت هواية فضل المحببة إليه, كانت تحيط بنا المستوطنات, فكان يحضر القفص والشباك وأدوات الصيد ويخرج خلسة قبل الفجر لصيد الطيور, كنت أستيقظ على صوت تحركاته في الليل في بعض المرات وأمنعه من الخروج خوفاً عليه, ولكنه غالباً كان يخرج دون أن نشعر به.
كنت أمازحه دائما عندما يصيد عصفور أو عصفورين وأقول له أننا سنطبخ اليوم طبخة عصافير من إعداد فضل, وعندما كبر فضل زادت محبته إلى أفراد عائلته سواء أسرته أو أسر أعمامه وأخواله, ولم يكن عصبياً مما دفع إخوته لمصادقته والحديث إليه في أوقات الشدة.
لم تكن مواقف فضل وطيبته مقتصرة على أفراد أسرته فقط, بل تعدت ذلك لتشمل جميع أفراد عائلته, ففي إحدى أحدى أعياد الميلاد الخاصة بطفل من العائلة, كانت امرأة عمه تبكي لأنها لم تتمكن من الإنجاب, فطلب منها أن تكف عن البكاء وأخبرها بأنه متكفل لها بتكاليف عملية زراعة كي تتمكن من الإنجاب, وبعد فترة أخبر الأطباء امرأة عمه الثاني أن طفلتها قد نولد مشوهة, وكانت خائفة وتريد أن تجهض كي تتخلص منها, فأخبرها فضل أن طفلتها ستولد بخير وستكون جميلة, وبالفعل ولدت امرأة عمه بطفلة جميلة خالية من العيوب.
كان فضل نباتياً ولا يحب أكل اللحوم كثيراً, وكانت الملوخية هي أكلته المفضلة, كذلك كان يحب الفواكه والحمضيات بشكل كبير, أما الحلويات فكان يحب الشعيرية وقطائف رمضان وكعك العيد, وكان يحب الذهاب إلي بيت عمته في الخلاء, لأنه كان يحب المناطق الخالية والبحر والمناطق الطبيعية.
كان فضل حنوناً على أخواته وكان يفاجئهم بالهدايا, وكان يشتري لي دائما هدايا جميلة, ولكن أجمل هدية تلقيتها منه في عيد الأم كانت صورته, وبعد ذلك اشترى لي جوال واشتراك فاتورة, واشترك في خدمة يسمع من خلالها المتصل أغنية تقول كلماتها “قرأت الرسالة حروفها ضايعين” كنت متشائمة من هذه الكلمات لأن بها ضياع, وكنت أطلب منه أن يغيرها.
يوسف شناعة شقيقه
قبل استشهاد فضل بنصف ساعة كنت أصور للوكالة الأمريكية وكان أخي محمد يصور لوكالة رويترز في ذلك اليوم حدث دخول لقوات خاصة إسرائيلية في منطقة بيت حانون واستشهاد ثلاثة أشخاص, فقمت أنا ومحمد كي نصور الحدث, فلحق بنا فضل حتى باب المكتب حتى نرجع ويذهب هو بدلاً منا, ولكن محمد أصر على الذهاب, في ذلك الوقت ذهب فضل لتغطية حدث في منطقة جحر الديك وتلقينا الخبر عن طريق الأجهزة الخلوية, حيث بدأ مساعد فضل بالصراخ والقول بأن فضل استشهد, كان الخبر قاسياً جداً علينا.
ذهب فضل لكني ما زلت أذكره عندما أشاهد الطيور, وعندما أشاهد البحر الذي كان يحبه كثيراً, وعندما أحمل الكاميرا التي كان يعشقها, كذلك عندما أذهب إلى مدينة خان يونس وأرى الشارع الذي استشهد فيه, جميعنا الآن يفتقد فضل ويفتقد نكهته الخاصة في العمل, لأنه كان يجمعنا ويستمع لمشاكلنا.
فادي شناعة ابن عمه
ونحن أطفال كنت أسأل فضل ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر, فيقول لي أنه يتمنى أن يصبح مصوراً صحفياً, كانت تلك الفترة مليئة بالأحداث والقصف وإطلاق النار, وكان فضل يعشق التواجد في الأماكن التي بها مصورين, لأنه كان يعتقد أن الصحفي والمصور الفلسطيني هو الوجه الأول والأخير لنقل الصورة للعالم.
كان انتماء فضل للصور واضح بشكل كبير, لم يكن في بداية عمله يريد أن يكون له سيارة أو بيت أو أي من الأمنيات التي يمني بها الشباب نفسه, كان فقط يتمنى أن يحمل كاميرا, لم يكن يحب المهنة لأنها ذات مردود مادي, بل لأنها توصل فكرة ورسالة هو يؤمن بها, عندما كان يذهب فضل لتغطية أي حدث, كان يقترب بشكل كبير منه, وكان يعتبر نفسه جزء من هذا المكان, ويبدأ بنسج الفكرة المناسبة التي يمكنه من خلالها إيصال معاناة هذه المنطقة للجميع.
يوم استشهاد فضل كانت أزمة السولار الصناعي وكانت السيارات تعمل على الزيوت النباتية, وكان مطلوب منه تصوير دخول السولار من المعبر, ومطلوب مني أن أصور وصول السولار لمحطة الكهرباء, في ذلك الوقت توترت الأوضاع في جحر الديك فذهب فضل إلى هناك لتصوير الأحداث, واتصل بي قبل استشهاده بعشر دقائق وقال لي أن السولار دخل وطلب مني أن أصور وصوله, وقال أنه سيذهب لأخذ صور للشهداء ومن ثم التوجه للمكتب في غزة, بعد لحظات وصلنا عبر الأجهزة الخلوية أن هناك صحفياً مصاباً بقذيفة فتيقنت أنه فضل, كنت أنتظر خبراً يطمئنني أنه بخير, لكن وصلنا خبر استشهاده, حينها جلست وأنا في المحطة ولم أستطيع الوقوف من صعوبة الخبر الذي وقع علينا كالصاعقة.
أسسنا بعد فترة من استشهاد فضل مؤسسة باسم الشهيد فضل شناعة لتكون إطار مؤسساتي لحماية حقوق الصحفيين, خاصة وأن هناك تقاعس كبير تجاه قضية فضل, وكل عام نحيي ذكرى فضل كي يبقى ملفه مفتوحا, حتى تعرف كل الأجيال أن هناك صحفي استشهد اثر استهدافه على الرغم من التزامه بكل قواعد العمل الصحفي, وأن قضيته ما زالت مفتوحة.
عرفات بربخ زميله
كان يتألم كثيرا من المشاهد التي يصورها من قتل وهدم ودمار, وكان دوما السباق في نقل الحقيقة بكافة نواحيها, أذكر يوما كنا نغطي أحداث الانقسام الفلسطيني وتعرضنا لهجوم, وتعرض فضل في ذلك الحين لضربة على رأسه من مسدس احد المشاركين في الانقسام, وامتلئ وجهه بالدماء ومن حسن حظنا يومها أننا وجدنا رجل يعرف فضل, فبفضل الله وفضل هذا الرجل تم إنقاذنا.
كان يغطى الأحداث ويسعف في نفس الوقت, ذات مرة تعرضت مجموعة للقصف فَنَقَل المصابين في سيارته إلى المستشفى في مشهد مؤلم, كان يبكي دوما خلف الكاميرا لأنه أول من ينقل مأساة من يقتل ومن يحزن ومن يبكي ومن يفرح, كنا نحب قضاء أوقات استراحتنا من العمل في الميناء, كنا نشتري بعض الساندويتشات من إحدى المطاعم, كنا نستمتع في الجو الجميل ومنظر غزة الرائعة خاصة في أوقات الغروب حيث كان للغروب في قلب فضل قصة حب كبيرة.
علمني فضل قيادة السيارة, في إحدى الأيام جلست مكانه كي أقود السيارة الخاصة به فقال لي لماذا تقود “زي عبد الحليم” في إشارة لتحريك المقود بشكل يمين ويسار, فضحكت كثيرا ولم أتمالك نفسي من الضحك فقال لي: انزل انت مش ناوي تتعلم.
وفي أحداث كسر الحدود بين رفح وغزة ودخول الناس إلى رفح المصرية كان يصور بث مباشر لوكالة رويترز, وكان الجو ماطراً في ذلك الحين, لف نفسه بقطعة من النايلون ولم يتوقف في ذلك الوقت, وبقي يصور لمدة خمس ساعات متواصلة والأمطار تسقط عليه دون أن يترك الكاميرا.
الليلة الأخيرة
الليلة الأخيرة التي أذكرها لفضل كانت هناك أحداث وتوغل إسرائيلي في حي الشجاعية , وحدث موقف لا أنساه أبدا, حيث قصف الجيش الإسرائيلي مسجد, وكنت أنا وفضل ووفا أبو مزيد نائمين في المكتب, ذهب فضل في وقتها إلى الشجاعية وأنا ذهبت إلى المستشفى للتغطية, وفي نفس اليوم صور فضل مشهد المسجد وهو محطم وكتاب الله وهو ممزق وبعد أن انهينا عملنا اجتمعنا في المكتب, بكي لمشهد القرآن وتألم كثيرا عندما حدثني بما رأي.
سمعنا عن خبر قصف في جحر الديك فقرر فضل الذهاب, وكنت سأذهب معه لكنه رفض بشدة, وقال لي: أنت تعبت عليك أن ترتاح, سأذهب أنا ووفا, فذهب إلى مكان القصف وفي هذه اللحظات تكلم وفا على جهاز الاتصال اللاسلكي, قائلاً “الحقونا الحقونا”, لم افهم ماذا حدث فخفت وتسارعت نبضات قلبي, وبعد لحظات انتشر خبر استشهاد فضل على القنوات الفضائية, كان ذلك موقفاً من أصعب المواقف التي مرت بحياتي, لأني فقدت الأخ والصديق والعزيز على قلبي.
لا يمكن لكل الكلام أن يعبر عن الحالة التي أصابتني, ذهبت إلى مستشفى الشفاء وكان اللقاء الأخير الذي جمعني مع صديقي, كانت لحظات مليئة بالألم والحزن, الحمد لله الذي انعم علينا بنعمة الصبر, فأنا لم أتخيل يوما من الأيام هذا المشهد وهذه اللحظات, فقد كنا نصور آلام الناس واليوم تصور آلامنا, كان فضل ينقل صورة الشهداء والمصابين, واليوم أصبحت صوره من صور الآلام.
نضال المغربي مديره
لقد جاءنا فضل شاباً غضاً طرياً من مخيم خان يونس في جنوب قطاع غزة ورغم انه كان ذا طبيعة ناعمة بعض الشيء يهتم كثيرا بشكله وشكل شعره وهندامه بطريقة كبيرة جداً إلا انه اثبت سريعا أن هذا لم يؤثر على تعلمه لمهنة تحتاج كثيرا من التعب والعناء أو بالعامية “البهدلة” أيضاً حيث طبيعة العمل تأخذك إلى ما لا تحسب له حساب من أماكن وظروف.
تعلم فضل بسرعة بواسطة مديره المباشر ومعلمه آنذاك الصحفي شمس شناعة وتتلمذ على يديه فكان مصورا رائعا سواء في مجال الأخبار السريعة أو التقارير أو تغطية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من اجتياحات وقصف.
كان شغوفا بعمله وكارها للراحة وما أن ينتهي تصوير في مكان حتى يتطوع ليذهب إلى مهمة أخرى وهذا لا يأتي إلا عند من يحب مهنته ويعتبرها أسلوب حياة لا وظيفة مقابل اجر, اعتمد قسم التلفزيون عليه كثيرا ونال الاستحسان والتقدير من القائمين على عمله وتوقع له الجميع مستقبلا عظيما إلا أن الله كان يدّخر له مصيرا أعظم واتخذه شهيداً.
فضل تم اغتياله بدم بارد وقد قام هو شخصيا بإدانة قاتله بل ومحاكمته مع وقف التنفيذ عندما التقطت عدسة كاميرته انطلاق قذيفة الدبابة التي اصطدمت بعنقه وعنق الكاميرا لترسله إلى الله شهيدا, استشهد فضل ولم يمت الحق ولن يموت ما دام كل الصحفيين الفلسطينيين يطلبوا هذا الحق ويوماً ما قريبا كان أو بعيد سيأخذ القاتل جزاء ما اقترفت يداه وما زلنا نحلم بالعدالة لفضل إلى أن تتحقق, في ذكراه الخالدة نقول أننا وأنا على وجه الخصوص اشتقتُ لضحكته ولكلامه ولعذوبة منطقه, فنم قرير العين يا فضل في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.
شمس شناعة مديره المباشر
كنت مدير مكتب رويترز في قطاع غزة, وبدأ فضل معنا في سن الخامسة عشر كمتدرب, كان يحب المغامرة والعمل منذ صغره, تعلم فضل فنون التصوير وأجاد تلك المهنة وبدأ يخرج إلى تغطية الأحداث برفقة شقيقه الأكبر محمد.
كان فضل عاشقاً للكاميراً ويهوى التصوير, وفي بداية عمله كان يغطي منطقة الشمال, وكان مشهوراً بتغطيته لتلك المنطقة والمجازر التي ترتكب فيها, ووثق أكثر من مجزرة في بيت لاهيا وبيت حانون, كان مميزاً ومجتهداً ومثابراً في عمله ومحبوباً من جميع زملائه, وكان من أوائل المصورين في الوصول إلى منطقة الحدث, والتزم فضل خلال عمله بالمهنة وأخلاقياتها, وكانت تربطه علاقة طيبة مع الجميع, وتحديداً المصورين, خاصة وانه يقضي أغلب وقته معهم.
فضل كان هادئاً ورومانسيا وله عالمه الخاص, يتردد كثيراً على البحر ويصور مشاهده الجميلة, ومغرماً بمتابعة غروب الشمس وقت الأصيل, ومع ذلك كان قادراً على ممارسة عمله القاسي وذلك لاقتناعه بأن عدسته هي مرآة الحقيقة للعالم, وفي الكثير من الأحيان كنت أطلب منه عدم الذهاب إلى أحداث معينة لكنه كان يصر على الذهاب.
أصعب اللحظات التي كان يمر بها فضل هي عندما يرجع من تغطيته للمجازر التي ترتكب, كانت نفسيته في تلك الفترة تسوء إلى عدة أيام, ولكن كنا نخفف عنه ونقول له بأنك فارس للحقيقة وتنقل للعالم ما يجري في تلك المناطق ويجب عليك الصمود, فيتشجع فضل ويرجع أقوى مما كان لإيمانه بقدسية الرسالة التي كان يحملها.
خبر استشهاد فضل هو أصعب نبأ تلقيته في حياتي, تم الاتصال بي وإخباري بأنه تم قصف فضل خلال تصويره للأحداث في منطقة جحر الديك, ذهبت إلى مكان الحادث وما زلت غير مصدق ما حدث, لكني وجدته مستشهداً, نحن أصحاب رسالة وكنا متوقعين أن يحصل لأي أحد منا ما حصل لفضل, خاصة في ظل الهجمة الإسرائيلية ضد الصحفيين الفلسطينيين.
اللقطة الأخيرة !
كَسَر فضل القاعدة الصحفية التي تقول “لا يوجد خبر يساوي حياة” ليقدم روحه من أجل إيصال الحقيقة والمجزرة التي راح ضحيتها آنذاك حوالي 20 شهيداً فلسطينياً, ووثق الجريمة الإسرائيلية عبر تصوير قذيفة الدبابة التي انطلقت نحوه لترديه شهيداً, وما زالت إسرائيل تنفي استهدافه كصحفي وتقول أنه كان في منطقة خطرة, ولكن رحلة ذوي فضل ووكالة رويترز في الحصول على الأدلة من خلال الشريط المصور أو الجنود المتواجدين في الحدث ما زالت قائمة حتى يتم تقديم قتلته إلى المحاكمة ومعاقبتهم, ولسان حالهم يقول “القضية ما زالت مفتوحة”.
زر الذهاب إلى الأعلى