بقلم : يوسف ناصر
ليس هذا موضعاً يتسع للحديث عن أسرار اللغة العربية ومزاياها وخصائصها ، أو الحديث عن غنى هذه اللغة واتساعها وما تجيزه لأبنائها من التعبير عن أدق المعاني وأقربها وأبعدها على نحوِ قلما تجيزه لغة من لغات الأرض قاطبة، كما لا أود هنا أن أذكر الأسباب التي أدت إلى فساد الألسن فيها ، وشيوع اللحن لدى أبنائها في عصرنا الحاضر خاصة ، بل وددت التذكير أولاً بأنها الرابط القومي الأول الذي يجمعهم ويوحدهم على تنوع دياناتهم وطوائفهم ومعتقداتهم وأن ضياع هذه اللغة لا بد له من أن ينتهي أخيراً بضياع هذا الرابط العظيم مما يؤول إلى سقوطهم ، وتقطيع أوصالهم على نحو ما نشهده اليوم من حال العرب بين الأمم .
وفي نظري وهذا ما قلته مرة في إحدى محاضراتي “ما سقطعت أمة من الأمم يوماً إلا بعدما سقطت لغتها من ألسنة أبنائها” ، لتحل محل هذا الرابط القومي والجامع لكلمتهم روابط إقليمية ودينية وعرقية وطائفية هدامة وجماعات أصولية وتنظيمات إرهابية مصنوعة خارج الأوطان لتدميرها ، وامتصاص دمائها ، ولتقتل الأمة بعضها بعضاً ، وتحفر قبرها بمعاول من سواعد أبنائها وتتفرق أيدي سبأ ، وتغدو دون سائر الأمم أمة فقر ولاجئين يستشري فيها الظلم والاستبداد.
وأخطر من ذلك كله ، وأشده مضاضة في هذه الحالة توفر الأحوال والظروف لاضطهاد الأقليات وأتباع الديانات السماوية الأخرى ، وتكفيرهم وترحيلهم ، وحملهم على هجر أوطانهم حين يعافون البقاء فوق أرض أبائهم وأجدادهم بعفل ما يكابدونه من أذى إخوتهم وبني قومهم ، وهل أغرب في الدنيا من مضطهد يضطهد ! مظلوماً يظلم ! ومقتول يقتل !
إن ما يهمني في هذا المقال ما وصلت إليه أم اللغات وياقوتة الألسن في زماننا من هوان وضعف بما نشهده كل يوم في المقروء والمسموع منها ، وأكثر ما يظهر ذلك في الأخطاء النحوية واللغوية وقواعد الإملاء خاصة . وما أقبح ذلك حين يكون الأمر شائعا لدى بعض كتابها وشعرائها وأساتذتها المطالبين بمعرفتها واجتناب أخطائها قبل غيرهم .
ما جئت هنا لأكون قيماً ورقيباً على الكتّاب، بل لأذكر قبل كل شيء بأن قيمة ما يكتبه الكاتب من نثر وشعر يقوم دائما على قدر جمال لغته وصحتها وخلوها من الشوائب من ناحية ، وعلى قدر جمال مضمونها والمعنى المبتكر فيها من ناحية أخرى ، فالوردة الشذية لا تكتسب جمالها من أريجها فحسب ، بل من ألوان ثيابها وهيئتها والعندليب الغريد لا ينال إعجابنا بشدوه وما يرجعه من نغمات الموسيقا وتطريبه وكفى ، بل بلون حلته الزاهية ، وخفق أجنحته ، وتطوافه أمام أعيننا في الأيكة الوارفة بين كل فنن وفنن .
لست أدعو في اللغة إلى التزمّت والتحذلق ، كما لا ادعو إلى لغة الحجارة والحصى ، والكتابة بالرمال والصدف من الكلمات القاحلة ، أو العودة إلى الأساليب الميتة بعدما شاخت وهرمت مما ابتكره القدماء من وحي ظروفهم ، إنما اللغة تتغير وتتجدد بتغير الأحوال ولا ينبغي أن تتخلف عن الحضارات ، وعليها أن تقبل التغيرات ، وتبدل ما رث من ثيابها ، وتأتي بالجديد ، تعطي غيرها من اللغات وتأخذ منها بحكم العلاقات التي تبقى قائمة ولا تزول بين الشعوب والأمم .
إن ما يدفعني إلى تناول هذا الموضوع الهام كما قلت هو ما بلغته اليوم لغتنا العربية في أكثر أقلام كتابها من أخطاء وسقطات كثيرة ، وقد عقّها أبناؤها ، وأزروا بها على نحو لا نجد له مثيلاً من قبل ، فلا خطأ عندهم في الخطأ ! ولا عيب في العيب مما أراه عاراً عظيماً عليهم ، وازدراء فادحاً لأنفسهم بازدراء لغتهم .
إن ما يطالعني كل يوم مما اقرأه وأسمعه أمر يبلغ الغاية من الفظاعة يتجاوب المئات من الأخطاء الدارجة و لا اعني هنا من الأخطاء ان يقول بعضهم التقيت به الصواب التقيته ، ولا جاء لوحدة والصواب جاء وحده ، وينظر بعينين سوداوتين والصواب سوداوين ، و”كلما أزوره كلما أكرمه ” والصواب ” كلما زرته أكرمته ” بوجوب أن يلى (كلّما) فعلّ ماض في شروطها وجوابها ، ومنع تكرارها ، بل أغني من الأمثلة تلك الأخطاء التي يكون استعمالها لغواً لا لغة عربية صحيحة ، أعني هاتيك الأخطاء التي تأخذ الكاتب إلى معنى يناقض قصده ويتبرأ منها المعجم ، فيقع المعنى المقصود في ناحية ، ومعنى اللفظ المستعمل في ناحية أخرى ! ونلقى الكاتب من حيث لا يعلم لم يعبر فيما كتب عما توخى من معنى ، كما لم يصبه ! أسأل والحال كذلك ، أين نحن اليوم من أرباب اللغة العربية وأساطينها المعروفين في بلاد الشام خاصة في الحرص على صحة استعمالها والعناية بتهذيبها وفق أحكامها وضوابطها كالمعلم بطرس البستاني والشيخ ناصيف اليازجي ونجله إبراهيم اليازجي وفارس الشدياق والشيخ الأزهري يوسف الأسير والشيخ مصطفى الغلاييني وغيرهم كثر ، حتى بلغ حرص أولئك على متانة اللغة وصحتها حال أدت إلى معركة لغوية ضارية وقعت بين إبراهيم اليازجي وفارس الشدياق طالت أعواماً انقضت بالمساجلة بينهما حول استعمال كلمتين ! فما بالنا لا نحذو حذو أولئك ولا نتنخّل ما نكتب ، ولا نراجع ما نقول ! إن لنا من هذه الأ×طاء التي عنيت أمثلة كثيرة لا تحصى ولا تحصر أذكر منها للقارئ ما يلي على وجه الاختصار وابتغاء الفائدة :
- التهجير : يقولون : ” قاموا بتهجير الناس من بيوتهم ” يعنون طردهم، والتهجير من الفعل هجّر القوم فعل لازم غير متعد أي ساروا في الهاجرة ، والهاجرة هي نصف النهار في القيظ خاصة ، وقد سميت كذلك لأن الناس يستكنون في بيوتهم لشدة الحر وكأنهم تهاجروا أي تقاطعوا . فأي المعنى المطلوب من هذا المعنى الشارد حين يقولون قاموا بتهجيرهم ! أو هجروهم ! فالصواب ترحيلهم أو تشريدهم أو طردهم .
- القيم : يقولون : ” كان مقاله قيماً أو هذا كتاب قيم ” يعنون أنه ذو قيمة ! أما اللغة فتقول إن القيم على الأمر متوليه ، وقيم المرأة زوجها ، فكيف يستوي هذا المعنى هو والذي توخاه الكاتب ! فالصواب مقال نفس أو مهم ، أو ذو قيمة عالية .
- التقييم : يقولون نرجو تقييم هذا الكتاب ، ونقيم هذه الخدمات ! وهذا خطأ لأن المصدر واويّ ، والصواب قولنا قوم يقوّم تقويماَ الشيء أي معرفة قيمته .وهناك الفعل قوّم تقويماَ أيضاَ بمعنى عدل الشيء .
- الشيّق: أقرأ وأسمع مراراً قولهم : كلامه شيّق ” وهذا خطأ ، إنما الشيّق لغةَ هو المشتاق ، فكيف يكون كلامه مشتاقاً ! والصواب كلامه شائق ، وأنا مشوق إليه من الفعل شاقك يشوقك ، أي يهجيك ويحملك على الشّوق . قال المتنبي : وقفنا ومما زاد بثا وقوفنا فريقي هوّى منّا مشوقّ وشائقَ
وقال أيضاَ
ما لاح برق أو ترنّم طائر إلا انثنيت ولي فؤادّ شيّقُ
أي مشتاق .
- الموسيقى : درج أكثرهم على كتابتها بالألف المقصورة ، والصحيح أن تكتب بالألف الطويلة . وقد ذهبت قواعد الإملاء إلى أن الكلمات التي أجازت العرب كتابتها بالألف المقصورة خمس لا غير هي : ” عيسى وموسى وكسرى وبخارى ومتّى ” وغير ذلك يكتب بالألف الطويلة مثل جغرافيا قيساريا عكا لوقا موسيقا فرنسا وغير ذلك . فإذا كنا نكتب موسيقى على هذا النحو جرياً على هذا الخطأ فلنكتب إذن كل الكلمات المذكورة وغيرها بالألف المقصورة .. ! ومع أن مجمع اللغة العربية في القاهرة مع بعض المعجمات الحديثة قد أجاز كتابتها بالألف المقصورة ، أي أجاز الخطأ لتأصّله لدى الناس ! فلا أرى في ذلك عذراً أو سنداَ لمواصلة كتابتها على هذا النحو لأن قبوله سيدفعنا إلى التساهل في قبول الأخطاء الأخرى، وهذا غير جائز لأن التساهل في الخطأ الواحد يأخذنا إلى التساهل في الأخطاء الكثيرة .
- صَمَّام : يقولون هذا صَمَّام أمان بتشديد الميم وفتح الصاد ، والصواب صِمَام بنزع التشديد وكسر الصاد وهو سِداد القارورة .
- المخضرم : يكثرون من قولهم إنه رجل مخضرم ، ويعنوان أنه عظيم ! وفاتهم أن المخضرم هو من لم يُختتن ، أو من مضى نصف عمره في ( الجاهلية ) ونصفه في الإسلام تشبيهاً بالناقة المخضرمة التي قطع شطر من أذنها وبقي شطر آخر كحسّان بن ثابت الأنصاري ولبيد العامري ! الصواب رجل خِضرم إذا شئت وهو الجواد المعطاء ، حتى هذا ليس هو المعنى الذي يقصدونه في قولهم المخضرم مع خطإ استعمال الكلمة !
- الحضور الكريم : يقولون في مطالع خطاباتهم : أيها الحضور الكريم ! والحضور جمع حاضر مثل وقوف جمع واقف ، وسجود جمع ساجد فالصواب الحضور الكرام .
- استلم : يقول استلمت الرسالة أو غير ذلك ، والصواب تسلّمتها ، أما الفعل استلم فمعناه لمس ، يقال استلم الحجر الأسود استلاماً أي لمسه إما بالقبلة وإما باليد لأن استلم مأخوذ من السلام بكسر السين ، وهي الحجارة مفردها سلمة على وزن كلمة قال الفرزدق
يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم .
- أكفّاء : يقولون أولئك رجال أكفاء بتشديد الفاء ، يعنوان أنهم ذوو كفاءة ! والصواب أكْفّاء بتسكين الكاف وفتح الفاء . والأكفاء جمع الكفيف وهو الأعمى ،أما ذو الكفاءة فهو الكِفْؤ والكِفْؤُ والكُفؤ وهي حالة يكون فيها شيء مكافئاً أي مساوياً لشيء آخر ويدمع على أكفاء وكِفاء .
- العمل المشين : يقولون هذا عمل مُشين أي مُعيب ، علماً بأنه لا وجود في اللغة للفعل أشان يُشين مزيداً للفعل شان يشين الشيء ، ضد زانه من الشين أي العيب . فالصواب هذا فعل شائن .
- أرض مِعطاءة : يقولون هذه أرض مِعطاءة بزيادة التاء ، في حين أن مِعطاء زنة مِفعال صيغة مبالغة يستوي فيها المذكر والمؤنث ، فنقول رجل مِعطاء ، وأمرأة مِعطاء والصواب أرض معطاء لا معطاءة .
- مختلَف: يقولون شاهدنا مختلف المدن ، بفتح لام مختلَف ، والحقيقة أن مختلف اسم فاعل لا اسم مفعول من اختلف يختلف ، فنقول شاهدنا المدن المختلِفة ، وعليه فإن الصواب شاهدنا مختلِف المدن ، تأخرت الكلمة أو تقدمّت .
- سويّاً : يقولون عملنا سوياً أي مع بعضنا بعضاً ، والسويّ لغةً هو المستقيم من سوى الشيء صنعه وجعله مستقيما ً ، فالصواب عملنا معاً .
- أخصّائي : يكتبون في غرفة استقبال الطبيب مثلاً : أخصائي في العيون أو الأمراض الباطنيّة ، حين لا تجد في اللغة الفعل ( أخّص) بل تخصّص واختصّ بالشيء أي انفرد به فالصواب اختصاصيّ لا أخصائي .
هذا قليل من كثير مما تركته الأقلام وراءها من أشلاء على الأسطر دونما معرفة الضرر الجسيم الذي يصيب المعنى بفعل هذا الخطأ ، ولا أدري ماذا يمكن أن نفعله أو تفعله اللغة بعدما تسلطت هذه الأخطاء على ألسنة الناس وشاعت ! فأقول عودوا إلى لعتنا كي تعود لغتنا إلينا ، إن الانتماء الأصيل إلى اللغة هو دليل الانتماء الأصيل إلى الناطقين بها ، وكل شيء غير ذلك باطل . ليس في الأرض كالكلمة المكتوبة عدو فضّاح لكاتبها ، إنها صورتك ووجهك وميزان عقلك أمام الناس في قبحها و في حسنها ، إن خيراً فخير ,إن شراً فشرّ! وفي نظري خير للأقلام أن تكون خُرساً من أن تنطق فتقع في الخطأ وتوقع غيرها فيه ، ولتكن كلمة الكلمة في معناها ، ولغة اللغة في مبناها هي ما نبذل قصارى الجهد لنبتكر الأولى بليغةً ، ونقدّم الثانية صحيحةً فلا ننفّر القارئ ولا يمل! حديثنا ويسأم ! وعلى الكتّاب أن يحترموا القارئ فيما يكتبون لفظاً ومعنّى ، فما قيمة الكاتب بغير الاقارئ! ولمن نكتب ونتكلم نحن لغير القارئ والسامع ! فليتنخل الكتّاب لغتهم ، وليعاودوا تنقيحها وتشذيبها مرة بعد مرة على قدر ما يجتهدون في عرض أفكارهم ومشاعرهم قبل إطلاع القارئ على ثمرات أقلامهم . إن التهاون أمام انتشار الأخطاء على أنواعها في اللغة ينزع من اللغة طبيعتها وأصولها كالتهاون في انتشار الأورام الخبيثة في الجسد مما يؤدي إلى الموت والهلاك ، مثله مثل بذار الشوك والعوسج تحملها الرياح إلى كل موضع فيسقيها المطر وتطلع فتخنق ما حولها من أزهار . ومثلما يُعنى المرء باختيار أجمل حلة يلبسها حفاظاً على أناقته في أعين الناس ، هكذا عليه أن يقدم معانيه بأجمل حلة من اللغة كي يُمتع بها قارئها ، ويستفز نشوته ، وتؤدّي معناها الصحيح فتنهض لغتنا العربية من كوبتها و تبرأ من أسقامها وتكون رابطاً قوياً يجمعنا قبل كل رابط .