*ماهر حسن شاويش
*كاتب صحفي مقيم في هولندا
يقتضي واجب الوقت إعطاء الأولوية لمقاومة موجة التطبيع التي تجتاح الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه ومن شماله إلى جنوبه ، ولعلها بعدما ضربت خليجه تغرس خنجرها المسموم في مغربه وتسعى جاهدة للتمدد حيثما سنحت لها الفرصة .
ربما نحتاج إلى توضيح لماذا نقاوم التطبيع ؟ قبل أن نعرّج على الإجابة على سؤال كيف نقاومه ؟
وهذا يستدعي منّا العودة إلى أول خطوة لا بل سقطة تطبيعية مع مصر الرسمية نهاية ثمانينات القرن العشرين ، مرورًا بما جرى في الأردن وكذا ما جرّه اتفاق أوسلو المشؤوم من ويلات بهذا الصدد وهو الذي شجّع البعض على اقتراف جريمة التطبيع متذرعاً بأنه ليس ملكياً أكثر من الملك ؟! وفي ذلك حجّة غير مبررة لاسيما أن الكل يدرك ويعي أن هذا الاتفاق ليس محل إجماع فلسطيني وأن ثمّة خلاف كبير حوله فلسطينياً .
والعودة في التاريخ تجعلنا نقف أمام سؤال الجدوى والمصير لهذه السقطات التطبيعية؟! تُرى ماذا جنت هذه الأنظمة من ذلك ، وهل وصلت إلى ما كانت تزعمه وتدّعيه من ثمار لفعلتها؟
هل تحولت مصر إلى سويسرا وهل بات الأردن سنغافورة؟ بعد اتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة ؟! وماذا تبقى لدعاة أوسلو من فلسطين التاريخية ؟
المستوى المعيشي والحال الاقتصادي لهذه البلدان خير مؤشر على سقوط نظرياتهم وفلسفتهم الفارغة بجدوى التطبيع مع الاحتلال ، والأخطر من ذلك كله حجم الخروقات في أمنهم القومي وتغلغل الاحتلال في أجهزتهم ومؤسساتهم وهم الذين زعموا أن التطبيع سيحميهم ويحفظ شعوبهم ويرتقي بها .
لا يمكن أن ننسى ولا ينسى أي عربي السموم التي بثها الاحتلال في أطعمة المصريين وغذائهم ، ولا تلويثه لمياه الأردنيين ومزروعاتهم ، وهو غيض من فيض أمام مخاطر لم يُكشف عنها بعد ، أو ربما جرى التعمية عليها .
قد يعتقد البعض أن سرقة مقتنيات فنادق في الإمارات من قبل نزلائها الإسرائيليين خبراً عابراً لايستحق التوقف ، لكنه في حقيقة الأمر مؤشر مهم على طبيعة هذا المحتل الذي سرق وطناً ، والذي يتأهب لسرقة أوطان بكل مافيها، وكما يقال في موروثنا الشعبي ” أول الرقص حنجلة” والقادم أعظم لابل أدهى وأمر .
سيكتشف المطبعون عاجلاً أم آجلاً وبال ما اقترفوه من جريمة على شعوبهم وأوطانهم قبل جريمتهم بحق قضيتهم المركزية فلسطين ، ولعلنا هنا نجيب لماذا نقاوم التطبيع؟ ولماذا يجب على الجميع مقاومة التطبيع ؟ لأنه سيفتك بمجتمعاتهم قبل غيرهم وسيعبث بأمنهم القومي بداية ، وستنعكس كل موبقاته عليهم؟! وسيرى القوم ذلك وإن متأخرين، ولو أنهم دققوا بتصريحات قادة الاحتلال وتابعوا بدقة إعلامه لوصلوا إلى ذلك مبكرين، قبل فوات الأوان وضياع الأوطان ؟!
أما كيف يمكن مواجهة ومقاومة التطبيع وخاصة نقابياً ؟ فإن ذلك يبدأ بما يملكه النقابي فرداً كان أم مؤسسة من هامش للتحرك بوصفه جزءاً من الحيز الشعبي وحراكه أوسع من الرسمي وحساباته الحزبية الضيقة؟!
يقع على عاتق النقابات اليوم التحرك بسرعة في نطاق مجتمعاتها المدنية وبيئاتها الأهلية بدءاً من التوعية إلى البرامج والأنشطة مروراً بكل فعل على الأرض يوقف هذا المد التطبيعي ، بُنيت فلسفة العمل النقابي والمجتمع المدني على أن تصوّب وتقوّم الرسمي وتضع حداً لتغوله على حقوق الفئات التي تمثلها ، وليس أكبر وأعتى وأقسى من هذا التعدي في جريمة التطبيع على المجتمعات بمختلف شرائحها النقابية والمهنية .
تضم النقابات والاتحادات العربية ملايين الأعضاء المنضوين لها ، يتوزعون في كل جغرافيات أقطارهم ويتنوعون في تخصصاتهم ويتعددون في إمكانياتهم ، وهذه نقاط قوة لهم يجب الاتكاء عليها لمواجهة هذه الهجمة التطبيعية الشرسة ،وقد لاحظنا ولمسنا الرفض الشعبي لها، وهو ما يمكن البناء عليه ، فموجة الرفض لسلوك فنان مصري نقطة مضيئة ، وتصرف نقابته خطوة مسؤولة، وبيانات الشجب والإدانة رسالة واضحة لبوصلة الضمير والوجدان الشعبي ينبغي تلقفها واستثمارها في هذه المواجهة ، تستطيع النقابات تجييش منتسبيها في كل مكان وتعبئتهم وحشدهم في كل زمان في معركة ضد التطبيع بكل أشكاله ، يمكن للشعوب أن تكفّر عن جريمة قادتها، ولا إطار أقوى وأنسب من النقابات والاتحادات لتجميع طاقاتها وصهرها في بوتقة واحدة .
كما يمكنها أن تتكتل في هيئات جامعة وتترجم ذلك رفضاً في كل المحافل والمنابر الدولية للتعدي على حقوقها.
سيكتب التاريخ ويسجل كل فعل وكل مبادرة وسيخلّد ذلك كله وإنا نربأ بنخب الأمة ومثقفيها التي تقود قطار نقاباتها من القعود أو النكوص في هذا الظرف الخطر والحساس من تاريخها.