أقلام حرة

مكارثية فرنسية تستهدف المسلمين باسم قيم الجمهورية

حسام شاكر

الإثنين، 04 يناير 2021 01:10 م بتوقيت غرينتش

تعبِّر “قيم الجمهورية” في السردية الفرنسية الرسمية عن انتماء المواطنين إلى البلد وعن تصوّرهم لأنفسهم أيضاً، فمفهوم “الأمة” مُلازم في هذا السياق لمفهوم “الجمهورية”. لا يقتصر مفهوم “الجمهورية” الفرنسي على النظام السياسي المجرّد ومؤسساته، فهو يستدعي أيضاً لحظات تاريخية ورموزاً تعود إلى الثورة الفرنسية ومعها حزمة قيم ومعانٍ وأفكار ومواثيق وتشريعات.

 

على هذا الأساس تُعرَض الهوية الفرنسية مشروطة بالتزامات قيمية وفكرية معيّنة، تتحدّد معها معايير الانتماء إلى “الأمّة الفرنسية” أو الإقصاء عن المجتمع، وهذا اختبار شاقّ يواجهه مسلمو فرنسا حالياً.

خرج الرئيس إيمانويل ماكرون في خطاب ألقاه يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 بمصطلح “الانفصالية الإسلامية” متحدثاً عن أنّ الضواحي ذات الكثافة المسلمة التي وصفها بـ”الغيتوات” تشهد نزعة انفصال عن الجمهورية. ثم طلب ماكرون لاحقاً من ممثلي المؤسسات المسلمة في فرنسا عندما استدعاهم يوم 18 تشرين الثاني/ نوفمبر، وضع “ميثاق القيم الجمهورية” والتوقيع عليها خلال أيام معدودة، واشترط إدراج مضامين محددة في هذا الميثاق؛ منها أنّ الإسلام دين وليس حركة سياسية.

 

بمنظور آخر، يطلب ماكرون من مسلمي فرنسا دون سائر المواطنين إعلان ولاء خاص للجمهورية، من خلال اللجوء إلى وضع ميثاق جديد؛ وكأنّ المواثيق العامّة والنصوص السابقة لا تكفي أو أنها لا تشملهم كغيرهم من المواطنين، ومنها “ميثاق العلمانية” المُعلّق منذ سنوات في كل فصل مدرسي.

 

ففي سياق نقاش عن الإسلام والمسلمين أيضاً سنة 2013 علَت التحذيرات من أنّ “العلمانية مُهدّدة” وأنّ “قيم الجمهورية في خطر”، فخرج “ميثاق العلمانية” في المدارس. لكنّ قيم الجمهورية التي تشدِّد على الفصل الصارم بين الدين والسياسة، لم تمنع كبار سياسيي فرنسا من إملاء توجّهات معيّنة على الشأن الديني الخاص بالمسلمين، بحزمة إملاءات، ومنها طلب تشكيل مجلس للأئمة يُتيح التحكّم بمواقع الإمامة والخطابة في المساجد.

تأتي الإملاءات الرسمية متزامنة مع وضع مسلمي فرنسا ومساجدهم ومؤسساتهم تحت المجهر السياسي والفحص الثقافي، مع إعلانات متلاحقة عن إغلاق عشرات منها. لا تتعقّب الحملة على “الانفصالية” المساجد وحدها، فهي تُطارد منظمات المجتمع المدني مثل “التجمع المناهض للإسلاموفوبيا في فرنسا” CCIF وهي منظمة تعمل ضد العنصرية والتمييز.

جاءت هذه التطوّرات في سياق موجة تسخين تشهدها فرنسا منذ أواخر صيف 2020. فمثلاً، في 17 أيلول/ سبتمبر قاطع نوّاب اجتماعاً في البرلمان حضرته رئيسة اتحاد الطلاب في جامعة السوربون UNEF مريم بوجيتو لأنها مسلمة تغطي شعرها وهذا يتعارض مع “قيم الجمهورية” بحسب مفهومهم.

 

تزامن ذلك مع بدء محاكمة المتهمين في الاعتداء الدامي على صحيفة “شارلي إيبدو”، وإعادة الصحيفة الساخرة نشر رسوم الازدراء التي تُهين معتقدات المسلمين. ثم وقعت اعتداءات دامية منها جريمة قتل مدرِّس فرنسي بطريقة وحشية، واقتراف مذبحة مروِّعة في كاتدرائية نوتردام في نيس على يد شاب مشرّد دخل البلاد قبل أيام.

شهدت فرنسا تصعيداً في المواقف بشأن المسلمين طوال شهور الخريف، عرفت خلالها المنصّات السياسية والإعلامية والثقافية مزايدات بلغ بعضها حدّ الهوَس. في سياق هذه الحملة المكارثية برز حضور وزير الداخلية جيرالد دارمانان في صدارة صقور الإدارة الفرنسية، حتى أنّ صحيفة “إلبايس” الإسبانية وصفته يوم 23 نوفمبر/ تشرين الثاني بأنه “رفيق ماكرون الشقيّ”.

 

أعرب دارمانان، مثلاً، في مقابلة مع قناة “بي إف إم” الفرنسية يوم 20 أكتوبر/ تشرين الأول عن انزعاجه من المنتجات الحلال في متاجر السوبرماركت الفرنسية. أمّا الرئيس ماكرون ذاته فانتقد في خطابه يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول ما سمّاها “قوائم دينية” في مقاصف المدارس، وهو يقصد تصنيفها بكلمة “حلال”.

ينظر بعض المتابعين بقلق إلى ما يجري، ويلحظون بروز تفرقة مؤسسية في البلاد مدفوعة بالهوَس. يرصد عالم الاجتماع السياسي البارز جان فرانسوا بايار مثلاً “مكارثية جمهورية” صاعدة في فرنسا ويحذِّر من مظاهر “إسلاموفوبيا الدولة” كما كتب في “لوموند” مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني. لا تجد مثل هذه الآراء والتحذيرات آذاناً صاغية على ما يبدو، بينما تتقدّم أدوار محطات تلفزية خاصة تمنح الأفضلية لمتحدِّثي التسخين الذين يتذرّعون هم أيضاً بـ”قيم الجمهورية” عندما يواصلون التصعيد ضد المسلمين الفرنسيين الذين يمثِّلون أكبر أقلية مسلمة في أوروبا، فالتذرّع بالقيم أسلوب مناسب لممارسة التفرقة والإقصاء أيضاً في المجتمعات العصرية.

جاء الردّ على التطوّرات الأمنية في فرنسا خلال السنوات الماضية بفرض حالة الطوارئ وتوسيع صلاحيات وزارة الداخلية من جانب، وبتسخين واضح على الجبهة الثقافية أيضاً من خلال استدعاء مقولة “قيم الجمهورية” من جانب آخر. برزت شيئاً فشيئاً اقتراحات الرقابة المجتمعية، من أجل رصد علامات التطرّف المبكِّرة وما قد يثير الاشتباه لدى الجيران أو تلاميذ المدارس المسلمين تحديداً، ثم انتقل الحديث أخيراً إلى “مكافحة الانفصالية الإسلامية”.

 

لكنّ مفهوم “الانفصالية” هذا ضبابيّ وفضفاض بما يثير المخاوف من إمكانية إساءة استغلاله من جانب السياسيين والأجهزة التنفيذية في بلد يصعد فيه اليمين المتطرف بقوّة ويحاول اكتساح الانتخابات. من المعاني المحتملة لـ”الانفصالية” أنها قد تشمل بعض مظاهر التنوّع الثقافي والحقّ في الاختلاف، ومن الواضح على أيِّ حال أنّ بعض النخب الفرنسية المتصدِّرة اعتادت إظهار الاستياء من مظاهر التنوّع في الحيِّز العام، حتى أنّ وزير الداخلية الفرنسي الأسبق جيرار كولومب قال إنّ ظهور القيادية الطلابية في جامعة السوربون مريم بوجيتو على شاشة فرنسية يوم 19 أيار/ مايو 2018 “أمر صادم”، والسبب حسب تعبيره أنها “مختلفة عن المجتمع الفرنسي”.

تخوض الطبقة السياسية الفرنسية الجديدة، المحاطة بكبار رجال الأعمال والمُقاولين، حملة ثقافية تخالطها مصالح سياسية وانتخابية، لكنها تقع خلال ذلك في تناقضات واضحة. فالحكومة التي تتحدّث عن الحرية تسعى مثلاً لتقييد حريات أخرى وتوسيع صلاحيات أجهزة الشرطة والأمن أيضاً بما يتسبّب بمخاوف واعتراضات واضحة لدى الجمهور. كان الاعتداء الوحشي على الموسيقي من أصل أفريقي ميشال زيكلر يوم 21 نوفمبر/ تشرين الثاني حدثاً صادماً في هذا الشأن، لأنّ الواقعة التي فضحتها الكاميرات أعادت إلى الأذهان شكاوى مزمنة لدى قاطني الضواحي من عنف الشرطة والدوافع العنصرية المحتملة وراءه.

برزت قيمة حرية التعبير في صميم التصعيد الثقافي، وتحديداً منذ الاعتداء المسلّح على صحيفة “شارلي إيبدو” سنة 2015. حشد الرئيس فرانسوا أولاند وقتها قادة العالم في مسيرة مهيبة لم يتخلّف عنها مسلمو فرنسا وممثلو مؤسساتهم أيضاً رغم انزعاجهم من الازدراء المهين في الصحيفة الساخرة، وتحوّل شعار “أنا شارلي” أو Je suis Charlie إلى تعبير ثقافي مرتبط بقيم الجمهورية. لكنّ إبراز قيمة حرية التعبير صار يترافق مع مضامين الإهانة والازدراء التي تتوجّه إلى المسلمين ودينهم، حتى دون أن يُبدي المسؤولون أي انزعاج من مضامين الإساءة تلك.

إنّ استدعاء حرية التعبير بهذا الشكل الانتقائي وضع الخطاب الرسمي الفرنسي في أزمة مصداقية، فالقيادة الفرنسية ذاتها تتجاهل الإشارة إلى حرية التعبير في مواقف أخرى، ولا ترحِّب بمضامين لا تروق لها وقد تلجأ إلى إجراءات لكبح ذلك. كتب ماركو بيروليني، الباحث في “أمنستي إنترناشيونال” لشؤون أوروبا، “إنّ الحكومة الفرنسية ليست نصيرة حرية التعبير كما تزعم”. من الأمثلة العديدة التي يذكرها بيروليني في مقال مفصّل أنّ محكمة فرنسية أدانت رجليْن في سنة 2019 بتهمة “الازدراء” بعد أن أحرقا دمية تمثل الرئيس ماكرون خلال مظاهرة سلمية.

 

يشير بيروليني في مقاله المنشور ابتداء في “نيوزويك” في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الذي أعادت “أمنستي” نشره، إلى ما لا تجرؤ حتى بعض النخب الفرنسية على البوح به تحت الضغط الثقافي القائم، فقد كتب: “أولئك الذين لا يوافقون على نشر الرسوم الكاريكاتورية لهم الحق أيضاً في التعبير عن مخاوفهم. كما يكفل الحق في حرية التعبير إمكانية انتقاد خيار تصوير الأديان بطرق قد يُنظر إليها على أنها نمطية أو مُسيئة. إنَّ مُعارضة الرسوم الكاريكاتورية لا تجعل المرء “انفصالياً”، أو متعصباً، أو “إسلامياً”..”.

ما شهدته فرنسا منذ خريف 2020 ليس حواراً مجتمعياً، ولا يبدو أنه جولة جدل أيضاً، لأنّ تعددية الآراء غابت تقريباً. إنها أشبه بحملة ثقافية زاحفة في ظلال مخاوف أمنية؛ بما كبح النقد الذي يأتي خافتاً أو خجولاً أو من خارج فرنسا ببساطة. إنها المكارثية على الطريقة الفرنسية، ولا بد أن تكون باسم الجمهورية وقيمها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى