محمد إسماعيل ياسين
رئيس اللجنة الإعلامية لمهرجان العودة الدولي للأفلام
لست من هواة متابعة المسلسلات عموماً، لذا لم اهتم بمشاهدة مسلسل التغريبة الفلسطينية الذي سمعت عنه قبل وفاة مخرجه الفنان الراحل حاتم علي، لكن حين توفى الأخير وأمام سيل النعي له عبر مواقع التواصل الاجتماعي والثناء الكبير على “التغريبة الفلسطينية” قادني الفضول لمشاهدة المسلسل لأول مرة خلال وقت حظر التجوال الشامل بقطاع غزة بسبب جائحة كورونا في بدايتها، فشدني المسلسل من بدايته لنهايته بكل تفاصيله المؤلمة والمشرقة، وأسرني لفرط جماله الفني وعمق معانيه الوطنية والثورية، ومنحني وأطفالي فرصة معايشة وجع النكبة وآلامها، والتي سمعنا عنها من كبار السن الذين عاصروها ورحل كثير منهم دون عودتهم إلى قراهم التي هجروا منها.
بعد عام عدت وشاهدت مسلسل التغريبة مرة أخرى، وصدقاً كأني اشاهده لأول مرة، وسرني أن أطفالي شاركوني مشاهدته بشغف وتحفز لمتابعة حلقاته في المرتين، وبذا تعرفوا على تاريخ القضية الوطنية من بداياتها بطريقة سلسة ومحببة للنفس ومؤثرة أيضا حتى أن طفلي الصغير كان يستحضر بعض تفاصيل مشاهد مقارعة الاحتلال رغم نسياني لها، ولا أخفيكم أني افكر بمشاهدته مجدداً بعد حين وحنين، إذ كنت أتمنى أن تستمر حلقاته بلا نهاية، وأن تتواصل رواية فصول الحكاية، ولكن حلقات المسلسل انتهت عند فترة زمنية معينة دون أن ينتهي الصراع مع الاحتلال الذي توالت فصوله بمحطات من المواجهة الشرسة والعنيفة والتي كان أحدثها معركة سيف القدس التي انبرت فيها المقاومة الباسلة في قطاع غزة للدفاع عن المسجد الأقصى المبارك وحي الشيخ جراح، مجسدة لوحة جميلة من الوحدة الوطنية والتي غابت كثيراً جراء الانقسام البغيض ومؤامرات الاحتلال وأعوانه.
رحل مخرج مسلسل التغريبة الفلسطينية الفنان المبدع حاتم علي إثر نوبة قلبية مفاجئة، وترك لنا مهمة استكمال رواية التغريبة الفلسطينية، ومسؤولية توثيق التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر للأجيال المقبلة، فكما أنا ممتن له لمنحي وأسرتي والأجيال المعاصرة فرصة معايشة أحداث النكبة التي لم نعاصرها، ولم نشاهد أحداثها، فينبغي علينا أن نواصل الرواية وتوثيق تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي حتى محطة التحرير الدانية بإذن الله، ورفع الراية الفلسطينية فوق مآذن المسجد الأقصى المبارك بعد تتبير ما علا الاحتلال الإسرائيلي تتبيراً لتتعرف الأجيال المقبلة على تاريخ أجدادها وبطولاتهم وأمجادهم التي سطروها بمداد من عزيمة وإرادة رغم شح الإمكانات وخذلان القريب والبعيد.
وفي هذا الإطار يأتي مهرجان العودة الدولي الثاني للأفلام الذي يطلق العنان أمام صناع الأفلام لتسليط الضوء على ملاحم البطولة والتضحية التي سطرها الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده خلال معركة سيف القدس التي غيرت كثير من المعادلات، وعززت الآمال بإمكانية دحر الاحتلال الإسرائيلي عن كامل التراب الفلسطيني، وبينت أن التضحيات السابقة مهدت لهذه المحطة المجيدة، وأن التضحيات الراهنة تمهد لنصر أكيد ومجد تليد، كما يسعى المهرجان لتوفير أرشيف مرئي بما تتضمنه الأفلام من مشاهد لجرائم الاحتلال لإدانته في المحافل الحقوقية والمحاكم الدولية، فضلاً عن إتاحة المجال أمام الأجيال المقبلة لمعايشة محطات التحرير التي لم يعاصروها، لاسيما أن الأفلام توثق الحاضر بكل تفاصيله بالصوت والصورة لجيل المستقبل!.
إن مهرجان العودة الدولي الثاني للأفلام يمثل شكلاً من أشكال مقاومة ومقارعة الاحتلال الإسرائيلي على صعيد جبهة الرواية، وهو محاولة لإيصال صوت الشعب الفلسطيني بلغة يفهمها العالم أجمع مفادها أننا شعب يعشق الحياة الكريمة وينشد الحرية والكرامة أسوة بشعوب العالم الحر، وفي ذلك تعزيز للتضامن الدولي مع القضية الفلسطينية وتعرية لوجه الاحتلال القبيح الذي بات يعاني على صعيد ترويج روايته الكاذبة والمضللة ويقر بتراجع التأييد والتضامن معه في المحافل الدولية عموماً، وفي ذلك نجاح كبير لجهود فرسان الإعلام الفلسطيني الذين يواصلون بكل عزيمة وإصرار درب زملائهم الذين قضوا برصاص وصواريخ الاحتلال والذين يقبعون خلف زنازينه المظلمة.