أظهرت التغطية الإعلامية للحرب الروسية على أوكرانيا وجود ممارسات صحفية أخلّت بأمرين: المعايير المهنية وأخلاقيات الإعلام، وهو ما أسعى لإثباته في هذا المقال، ولم تَنجُ من ذلك وسائل إعلام كبرى مثل “فرينش إم إس إم” (French MSM)، و”بي بي سي” (BBC)، و”آي تي في” (ITV)، و”سي بي إس” (CBS)، و”إن بي سي” (NBC)، وحتى الجزيرة الإنجليزية.
فعلى سبيل المثال، وصفت مراسلة “إن بي سي” اللاجئين الأوكرانيين الذين يعبرون الحدود إلى بولندا بأنهم “ليسوا لاجئين من سوريا، بل من أوكرانيا المجاورة. بصراحة هؤلاء مسيحيون؛ إنهم بيض، ويشبهون الأشخاص الذين يعيشون في بولندا”. وقال مراسل “سي بي إس” (Charlie D’Agata) في تغطيته “إن هذا المكان ليس العراق ولا أفغانستان اللذين شهدا صراعات على مدار عقود. هذا بلد متحضر نسبيًّا، وأوروبي نسبيًّا، ولن تتوقع أو تتمنى أن يحدث شيء كهذا فيه”. وفي تعليقه على مشهد تزاحم الأوكرانيين للركوب في قطار هربًا من الحرب، قال مذيع قناة الجزيرة الإنجليزية (Peter Dobbie) “انظروا إلى صورة لباس هؤلاء، إنهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى المرفهة؛ فهم ليسوا لاجئين يحاولون الهرب من بلدانهم في الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا، بل يبدون مثل أي عائلة أوروبية تعيش في الجوار”. وفي التلغراف البريطانية كتب “Daniel Hannan” قائلًا “إنهم يشبهوننا، وهذا ما يجعل المسألة صادمة. أوكرانيا بلد أوروبي يشاهد أهله نتفليكس، ولديهم حسابات على إنستغرام، و يصوّتون في الانتخابات، ولديهم صحافة حرة. الحرب لم تعد تحدث في المجتمعات الفقيرة المعزولة، بل قد تحدث لأي أحد”.
هذه مجرد عينة من التعليقات الإعلامية على الحرب، وهي تعليقات أثارت سخط كثيرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن الأمر لم يقتصر على وسائل الإعلام، بل تعدّاه إلى تصريحات وتصرفات شخصيات رسمية وحكومية، فرئيس وزراء بلغاريا قال صراحة “اللاجئون الأوكرانيون ليسوا من اللاجئين الذين اعتدناهم، ولذلك سنرحب بهم. هؤلاء أوروبيون أذكياء ومتعلمون، ولا يملكون ماضيًا غامضًا كأن يكونوا إرهابيين”. أما “David Sakvarelidze” -وهو وكيل نيابة سابق في أوكرانيا- فقد قال لـ”بي بي سي” “ما يحدث يثير المشاعر؛ أشاهد أشخاصًا أوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر وأطفالًا يُقتلون بصواريخ بوتين كل يوم”. وقد أظهر فيديو رفض الشرطة البولندية استقبال الطلاب الأفارقة الذين يدرسون في أوكرانيا وهم يرددون “نحن طلاب لسنا لاجئين”، ولكن تقريرًا نشره موقع “دويتشه فيله” (DW) الألماني أظهر شكوى نيجيرية ونفيًا بولنديًّا ووعدًا من أوكرانيا بالتحقيق في الموضوع.
لكن ما الذي يدفع صحفيًّا؛ مذيعًا أو مراسلًا، إلى أن ينتقل من نقل الحدث والتعليق عليه إلى التورط في تلك المقارنات التي تسيء إلى شعوب أخرى، وتنتهك أخلاقيات العمل الصحفي، وتخرق المعايير المهنية من حيث إنها تخلّ بمبدأ الموضوعية؟ يقودنا هذا السؤال إلى مناقشة مسألتين رئيستين:
- المهنية ومنهجية المقارنة.
- العنصرية وأخلاقيات العمل الصحفي.
1. المهنية ومنهجية المقارنة
ثمة نقطة مركزية تسم التصريحات الإعلامية السابقة، هي أنها جميعًا تنزلق إلى عقد المقارنات بين محنة أوكرانيا ومحنة شعوب أخرى في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا على وجه الخصوص، وتتضمن هذه المقارنة 3 اعتبارات:
- التمييز بين لاجئين ولاجئين بناء على اعتبارات مختلفة منها اللون والديانة والجغرافيا (بيض، مسيحيون، الجوار الجغرافي)، بل بناء على الحالة الاقتصادية أيضًا؛ فاللاجئون الأوكرانيون ليسوا مثل الآخرين لأنهم ينتمون إلى الطبقة المتوسطة المرفهة!
- إثبات الفارق بين أوكرانيا وغيرها من البلدان التي شهدت حروبًا؛ فهي بلد أوروبي متحضر، وأصحابه غير معتادين على الحروب كما هو الحال في العراق وأفغانستان!
- أن الحرب لم تعد تحدث فقط داخل المجتمعات الفقيرة المعزولة، بل إنها تحدث أيضًا في بلد أوروبي بما يحيل إليه هذا من نمط حياة (نتفليكس وإنستغرام …) وقيم (حق التصويت، والصحافة الحرة…). ورغم أن هذا العامل قد يحيل إلى وجود صورة نمطية عن الحرب وأنها ملازمة للبلدان الفقيرة، فإنه أيضًا يحمل في طياته تجاهلًا فجًّا لأن روسيا هي نفسها التي قاتلت ودمرت في سوريا، وإسرائيل خاصت حروبًا متكررة داخل أرض فلسطين وخارجها، ولأن أميركا خاضت حروبًا في أفغانستان والعراق، أي إن قوى خارجية تنفذ حروبًا في البلدان الضعيفة والفقيرة والحرب ليست خيارا داخليًّا!
وكانت جمعية الصحفيين العرب وصحفيي الشرق الأوسط (AMEJA) دانت “التغطية العنصرية للحرب”، ومن اللافت أن البيان أكد مجموعة نقاط مهمة: (1) رفض المقارنات التي تبرر بعض النزاعات وتتعاطف مع أخرى، مما يسهم في إزالة سياق النزاعات ويقلل من معاناة السكان الذين يعانون من الاحتلال والعدوان، (2) وعدم المفاضلة بين الضحايا؛ إذ إن “الضحايا المدنيين والنزوح في البلدان الأخرى أمر مقيت بالقدر نفسه في أي مكان”، (3) ورفض “تطبيع المأساة في أجزاء من العالم مثل الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا وأميركا اللاتينية” من خلال تجريد شعوب من إنسانيتهم وتحميلهم المسؤولية عن الصراع واعتبارهم مستحقين للحرب عبر وصمهم بعدم التحضر، (4) والتضامن مع المدنيين الذين يتعرضون لهجمات عسكرية في أجزاء مختلفة من العالم، وفي الوقت ذاته.
تنحصر مهمة الصحفي في نقل الواقع فقط من دون أن يتورط في إصدار أحكام تقويمية أو انحيازات من أي نوع، فإذا ما قام بأي شكل من أشكال المقارنة كان هدفه ضمّ السياق إلى الخبر ليكون أكثر وضوحًا وإفادة في نقل الواقع وفهمه فقط، لا في تحديد الواجب تجاهه أو كيفية تغييره.
لكن هل العيب في فكرة المقارنة نفسها التي قام بها الصحفيون المشار إليهم سابقًا، بغض النظر عن مدى صحة أو عدم صحة خلاصاتها؟ المقارنة أحد أدوات التفكير والبحث، بل بالمقارنة نتمكن من فهم أعمق للظواهر، وذلك يعني أن المشكلة لا تكمن في المقارنة نفسها إنما في وجود تحيزات سابقة قادت إلى مثل تلك المقارنات، أي إن المقارنة هنا لم تكن أداة للفهم والتحليل بل شكلت أداة لإثبات التصورات القيمية القبلية وإظهار مواقف وقناعات الصحفيين السابقين، وذلك يعني أنهم لم يفشلوا أخلاقيًّا فقط بل فشلوا مهنيًّا أيضًا؛ وبيان ذلك من 3 جهات:
أولها: أنهم انخرطوا في موضوع التغطية واستغلوا الحدث للإفصاح عن تحيزاتهم الثقافية والعرقية، والجدير بالصحفي ألا يتماهى مع موضوعه وأن يحافظ على قدر من الموضوعية في أدائه، فإذا كانت تغطيته لحرب في أوروبا ستختلف عن تغطيته لحرب في الشرق الأوسط نتيجة بروده في مكان وحرارة مشاعره في مكان آخر؛ فإن هذا من شأنه أن يثير التساؤل حول موضوعيته ومن ثم مصداقيته.
ثانيها: أن التعليقات السابقة تنطوي على حكم قيمي يقوم على الانتقاص من إنسانية الآخرين لاعتبارات عرقية وثقافية ودينية وجغرافية، بل إنها تريد حمل المشاهدين على (مزيد) من التعاطف مع الأوكرانيين، لمجرد أنهم “يشبهوننا”، وليس لأن قضيتهم عادلة من حيث إنهم يتعرضون لغزو روسي غير مبرر قانونيًّا، فلأنهم ليسوا مثل بقية اللاجئين يستحقون مزية تفضيلية من التعاطف والمساعدة.
ثالثها: أن التعليقات السابقة -بناء على معايير مهنية- تدخل في نطاق الثرثرة؛ إذ إنها لا تقدم أي معلومة مفيدة فيما يتعلق بالخبر ولا فيما يتعلق بالسياق الذي يساعد على فهم أعمق لملابسات الحدث. أي إن الصحفيين في هذه الحالة خرجوا من مجال العمل الصحفي إلى مجال تجييش المشاهدين للتضامن معهم وبأساليب غير أخلاقية فضلًا عن أنها غير مهنية.
إن عدم التمييز بين المستويين السابقين، أعني المقارنة بوصفها أداة للفهم والتحليل، والمقارنة بوصفها منهجية للتقويم والمفاضلة، من شأنه أن يؤدي إلى الخلط بين 3 مجالات: السياسي والأخلاقي والصحفي:
- فالسياسي يقارن طلبًا للفهم والتحليل ويحاول بذلك التنبؤ بالسلوك السياسي؛ إذ إن أوجه التشابه والاختلاف تنطوي على معانٍ كثيفة إذا ما وُضعت في سياقها.
- والأخلاقي يطلب التقويم من خلال المقارنة، أي إنه يبحث عن خلاصات تقويمية.
- أما الصحفي فتنحصر مهمته في نقل الواقع فقط من دون أن يتورط في إصدار أحكام تقويمية أو انحيازات من أي نوع. فإذا ما قام بأي شكل من أشكال المقارنة كان هدفه ضمّ السياق إلى الخبر ليكون أكثر وضوحًا وإفادة في نقل الواقع وفهمه فقط، لا في تحديد الواجب تجاهه أو كيفية تغييره. أي إن المقارنة في العمل الصحفي لا تنبغي إلا من أجل الإفادة، وبحثًا عن معالم الخبر المميِّزة له عن غيره؛ بما يجعله خبرًا متفردًا يستحق التغطية، ومن ثم فإن ميل الصحفي هنا يتوجه نحو معرفة الاختلافات أكثر من أوجه التشابه، لأن التشابه مقدمة إلى التعميم، أما الاختلاف فأليق بخصوصية كل خبر، لأنه هو بطل الحدث في حالة المراسل أو المذيع. نعم قد يخوض الصحفي في المقارنة من أجل الكشف عن أوجه المفارقة ولمساءلة السياسات المزدوجة إذا اتحد السياق والموضوع، بحيث يولّد الأسئلة التي على زملائه أن يتلقفوها ليناقشوها مع المحللين.
من أمثلة المقارنة بهدف التحليل والفهم، وصف صحيفة “نيويورك بوست” (New York Post) لجنديّ أوكراني قام بتفجير نفسه على جسر لمنع التقدم الروسي بأنه “جندي أوكراني بطل”، فالمقارنة بين هذا الحكم ونظائره في مواجهة الإسرائيليين في فلسطين وغيرها -مثلًا- تبدو مفيدة لمزيد من التحليل والبحث في اختلاف السياقات ومن ثم التقويمات والعوامل المؤثرة فيها. ومن الأمثلة أيضًا تصريح وزيرة الخارجية البريطانية الذي دعمت فيه توجه الراغبين بالقتال إلى أوكرانيا بمن فيهم البريطانيون، فلو قورن بنظائره في سوريا والعراق وغيرهما لأمكن فهم تعقيدات الحدثين وأوجه الاختلاف بينهما، وهذا يعني أن مجرد المقارنة هنا ليست خاطئة، بل مفيدة من حيث فهم المنظورات المختلفة للمسألة كالفرق بين فعل الدولة والتنظيمات التي دون الدولة، والفرق بين عمليات مقاومة الغزو وفق منطق الدولة القومية، والأيديولوجيا التي تسعى إلى تأسيس دولة على أنقاض الدولة القائمة، ومن المهم أيضًا في هذه المقارنة عدم الاجتزاء لدعم خلاصات مسبقة؛ فوزير الدفاع البريطاني مثلا اتخذ موقفًا مناقضًا لموقف وزيرة الخارجية البريطانية وعارض فكرة المقاتلين الأجانب.
2. العنصرية وأخلاقيات المهنة
تنطوي التعليقات الإعلامية السابقة على أحكام تقويمية واضحة بل فجة، وينطبق عليها وصف “العنصرية”، وكان الإعلان الذي أصدره المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة سنة 1978 قد نص في أحد بنوده على أن العنصرية تشمل -ضمن ما تشمل- أي موقف متحيز أو نمط سلوكي تمييزي، كما تشمل “الدعوى الزائفة إلى وجود مبررات أخلاقية وعلمية لقيام علاقات تمييزية بين الجماعات”. ومع التعليقات السابقة نحن أمام تمييز بين البشر أو اعتقاد تفوق فئة منهم على غيرها؛ بناء على سمات عرقية (كاللون والشكل مثلا) أو ثقافية (كاللباس ونمط الحياة) أو دينية (كالمسيحية والإسلام هنا)، تنبني عليها مفاضلة في السلوك والحقوق والواجبات. وهذه الاعتبارات غير مسوّغة أخلاقيًّا؛ لأنها تحيل إلى عوامل لا مدخل لها في صياغة الواجبات وتأسيس القيم الأخلاقية على الأقل من المنظور الغربي لحقوق الإنسان نفسه، كما أنها لا تصلح مصدرًا لإضفاء الشرعية على الاختلافات البشرية والواجبات الأخلاقية تجاه اللاجئين أو الواقعين في محنة الحرب ممن هم بحاجة إلى المساعدة، وذلك بخلاف معايير مثل الإنسانية، أو الحاجة إلى المساعدة، أو الفئات الضعيفة أو المستضعفة.
والعنصرية مفهوم حديث نسبيًّا، فقد نشأ في العصر الأوروبي للإمبريالية ثم توسع مع نمو الرأسمالية بخاصة تجارة الرقيق، ومن ثم كان له دور في إضفاء الشرعية على حملات الاستعمار والإبادة الجماعية، ولكننا نراه اليوم في سياقات مختلفة من بينها هذه التغطية الإعلامية التي تعكس تصورات استشراقية. فالتعليقات السابقة تنطوي على فكرة مبطنة، هي أن معاناة غير البيض (أو غير الأوروبيين) ناجمة عن ثقافاتهم المتدنية، وذلك يؤدي إلى قبول فكرة عدم المساواة وإضفاء شرعية على التمييز في المعاملة. فبناء على ذلك يستحق المتفوق حضاريًّا ولونًا المساعدة؛ لأنه كذلك، ولكونه كذلك فهو -بالطبع- لا يُطيق فكرة الحرب التي تبدو أجنبية عنه وعن نمط تفكيره وحياته الحديث، فالعنف وقرار الحرب يبدوان كما لو أنهما صناعة “الآخرين” وتحديدًا المسلمين في الشرق الأوسط وأفريقيا المتصالحين مع العنف والحرب؛ إذ تبدو كما لو أنها جزء من ثقافتهم المتدنية وغير المتحضرة!
ولكن إلى أي مدى تعكس هذه التعليقات الإعلامية وبعض التصرفات التمييزية التي بدت في أوكرانيا وبولندا عمق الأزمة داخل الثقافة الأوروبية نفسها؟ بالتأكيد لا يمكن إصدار تعميمات ولكن الظاهرة موجودة ومقلقة كما أن أميركا نفسها لم تفلح في محوها، ثم إنها متصاعدة في أوروبا مع نمو اليمين المتطرف، وقد جادل ديفيد غولدبيرغ وتشارلز ميلز بأن العنصرية متجذرة -بعمق- في ثقافات المجتمعات الأوروبية الحديثة ولغاتها، وأن اعتناق هذه المجتمعات لمفاهيم الليبرالية الكلاسيكية السائدة حول الفردانية والمساواة والحرية لم يستطع أن يخفي العنصرية نفسها. وفي تقديري أن اعتبار “الاختلاف” مشكلة تتطلب الاستيعاب وسياسات الإدماج إنما يعكس شكلًا من أشكال العنصرية التي ترفض التعدد أو التسامح مع أشكال وأنماط ثقافية ودينية مغايرة لا تتوافق مع النموذج الحديث الذي يراد فرضه، لأن ما عداه هو -بالضرورة- لا يتحقق فيه وصف التحضر والمدنية، ومن ثم يجب نبذه والانتقاص منه! أليس هذا هو نفسه “الانسجام” في النسيج الاجتماعي الذي تحدث عنه بشار الأسد بعد قتل وتهجير ملايين السوريين من أهل السنّة، لا سيما أنه قُدّم في الصحافة الغربية بعد تسلمه السلطة على أنه رجل “حديث” تلقى تعليمه في الغرب؟
لا تقف المشكلة إذن عند حدود المفاضلة أو الإعلاء من شأن فئة على حساب الانتقاص من فئة أخرى، بل تتعداها أيضًا إلى معايير المفاضلة التي على أساسها يُحدد الأكثر إنسانية والأقل إنسانية، أو من له حق المساعدة واللجوء ومن لا يستحق ذلك.
لم أقف شخصيًّا على أي تعليق ناقد لسلوك الصحفيين السابقين في مؤسساتهم الصحفية نفسها، ولا من قبل زملائهم الذين استمعوا إلى تلك التعليقات على الهواء، وربما تكون الجزيرة الإنجليزية التي تبث من منطقة الشرق الأوسط استثناءً هنا، فقد أصدرت بيانًا تعتذر فيه إلى مشاهديها عن هذا الخلل المهني الذي وقع من مذيعها المشار إليه سابقًا، وقالت في البيان “إن تعليقات المذيع لم تراع الحساسية المفترضة ولم تتحلّ بالمسؤولية”. وبدل أن تتولى “بي بي سي” نقد هذه المواقف -ومن بينها تعليق وكيل النيابة المشار إليه سابقًا عبر شاشتها- نشرت على تويتر تغريدة مصحوبة بفيديو لمراسلتها التي التقت شابًّا نيجيريًّا وصف فيه الجيش الأوكراني بأنه تعامل معهم كالحيوانات، ثم سرعان ما أدخلت تعديلات على التغريدة فصار عنوانها كالآتي: “الليلة الماضية كانت صعبة جدًّا والجيش كان لئيمًا للغاية”، فيما يبدو أنه صيغة للتخفيف من قسوة التصرف العنصري من قبل الجيش الأوكراني!
تتفق التعليقات الإعلامية السابقة على مفهوم مركزي هو التحيز لمن “يشبهنا” في الشكل واللون واللباس ونمط الحياة ويتبنّى القيم نفسها، وهو أمر يعني أن مقولات الليبرالية الخاصة بالحرية والتسامح والتعددية لم تفلح في محو النفور من الاختلاف الذي يستره الانحياز إلى من يشبهنا فقط، وإعطاؤه الأولوية وربما الحق الحصري بالمساعدة واللجوء إما نتيجةً للصورة النمطية عن الإرهاب الإسلامي، أو خوفًا ممن يهدد الانسجام الثقافي المفتَرَض. هكذا تتراجع المنظورات القيمية الكلية والإنسانية إلى حدودها الدنيا تبعًا لمنظورات سياسية وثقافية.
لا تقف المشكلة إذن عند حدود المفاضلة أو الإعلاء من شأن فئة على حساب الانتقاص من فئة أخرى، بل تتعداها أيضًا إلى معايير المفاضلة التي على أساسها يُحدد الأكثر إنسانية والأقل إنسانية، أو من له حق المساعدة واللجوء ومن لا يستحق ذلك. فهل تقوم المفاضلة على معايير أخلاقية أو عصبيات قومية وعرقية وثقافية؟ ما يميز الاعتبارات الأخلاقية هو أنها اعتبارات قيمية تحظى بتأييد واسع وتتسم بالكلية والشمول، وتتجاوز التحيزات الضيقة، كحقوق النسب والجوار مثلًا، ومع ذلك فهذه القيم ليست سواء، لأنه يقع التفاضل بينها عند التعارض. أما مجرد التشابه في الشكل أو نمط الحياة فلا ينطوي على قيمة فضلًا عن أن يكون عاملاً تفضيليًّا، وهو جزء من منظور ثقافي هوياتي حديث ويتورط في المواقف العنصرية على الرغم من دعاوى الحرية والتعددية والتسامح مع الاختلاف.