حذف المحتوى الخاص باعتداءات إسرائيل بحق الفلسطينيين من جانب فيسبوك يقابله حماية المحتوى الأوكراني والترويج له ونشر كل ما يعادي روسيا، فكيف تفسر شركة “ميتا” عن هذا التناقض؟
كان عملاق التواصل الاجتماعي، فيسبوك، قد فشل في تبرئة ساحته من شبهة الانحياز لإسرائيل بشكل عام، وهي الاتهامات التي طفت على السطح بوضوح أثناء العدوان الأخير على قطاع غزة، على الرغم من تقرير مجلس المشرفين التابع للشركة الأمريكية، الذي أكد على “الانحياز” وطالب بوقفه.
وخلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، يبدو أن فيسبوك أصدر توجيهات للمشرفين بتمرير المحتوى المصور للقصف الروسي على أوكرانيا، لكنه أمرهم بتقييد المحتوى المتعلق بالاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، بحسب تقرير نشره موقع The Intercept الأمريكي.
حذف المحتوى الفلسطيني
بعد سلسلة من الهجمات الجوية الإسرائيلية ضد قطاع غزة المكتظ بالسكان في وقتٍ سابق من هذا الشهر، احتج المستخدمون الفلسطينيون لفيسبوك وإنستغرام، على الحذف المفاجئ للمنشورات التي توثق الموت والدمار الناجم عن القصف الإسرائيلي. لم تكن هذه أول مرة يشكو فيها مستخدمو منصتي التواصل الاجتماعي المملوكتين لشركة “ميتا بلاتفورمز” -المعروفة تجارياً باسم “شركة “ميتا”- من حذف منشوراتهم بدون مبرر واضح.
يبدو أن سياسة حذف المحتوى المتعلق بالانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين أصبحت نمطاً معتاداً لدى فيسبوك وإنستغرام. تشير شركة “ميتا” إلى أنَّ سبب ذلك يعود إلى انتهاك هذا المحتوى لـ”معايير المجتمع” الخاصة بالشركة. وفي أحيان كثيرة لا تقدم الشركة تفسيراً على الإطلاق.
تُظهر وثائق متعلقة بالسياسة العامة -لم يعلن عنها سابقاً وحصل عليها موقع “The Intercept” الأمريكي- أنَّ الشركة أصدرت تعليماتها للمشرفين بعدم تطبيق الإجراءات الاعتيادية لسياسات المحتوى على المنشورات في سياق الحرب الروسية-الأوكرانية وعدم التدخل بتعديلات كبيرة على الصور التي توثّق أحداث هذه الحرب.
كانت شركة “ميتا” -على غرار شركات الإنترنت الأمريكية الأخرى- قد استجابت للهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه “عملية عسكرية خاصة” بينما يصفه الغرب بأنه “غزو”، بإصدار مجموعة من السياسات الجديدة الرامية إلى توسيع انتشار خطاب الأوكرانيين عبر شبكة الإنترنت وحمايته والسماح على وجه التحديد بتداول الصور ومقاطع الفيديو المصوّرة للضحايا المدنيين الأوكرانيين لأطول فترة ممكنة على كلا المنصتين، فيسبوك وإنستغرام. لم تتخذ شركة “ميتا” إجراءً مماثلاً على الإطلاق تجاه ضحايا الاعتداءات الإسرائيلية على فلسطين وقطاع غزة.
منى اشتية، فلسطينية مدافعة عن الحقوق الرقمية ومستشارة لدى المركز العربي لتطوير وسائل التواصل الاجتماعي “مركز حملة”، قالت للموقع الأمريكي إنَّ “هذا تقييد متعمَّد لمنع توثيق الرواية الفلسطينية وانتهاكات حقوق الإنسان”. سجَّل “مركز حملة” ما يقرب من 90 عملية حذف محتوى أو تعليق لحسابات توثَّق الهجوم الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، من يوم 5 أغسطس/آب حتى 15 أغسطس/آب والدمار الناجم عنه على المنصات التابعة لشركة “ميتا”.
قالت مروة فتافطة، مديرة سياسات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة “Access Now”، وهي مجموعة دولية تدافع عن الحقوق الرقمية للمستخدمين من كافة أنحاء العالم: “ثمة رقابة منتظمة مثل الساعة. كلما تصاعد العنف الإسرائيلي على الأرض، زادت وتيرة حذف المحتوى الفلسطيني”.
ومن بين الأمثلة التي تكشف ممارسات الرقابة على المحتوى الفلسطيني، حذفت شركة “ميتا” منشوراً يوم 5 أغسطس/آب ينعي استشهاد الطفلة الفلسطينية البالغة من العمر 5 سنوات، آلاء القادوم، إثر القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، وحذفت منشوراً آخر على إنستغرام يتضمن مقطع فيديو لسكان غزة وهم يحاولون انتشال الجثث من تحت الأنقاض.
كيف تبرر فيسبوك أفعالها؟
قالت إريكا ساكين، المتحدثة باسم شركة “ميتا”، لموقع “The Intercept” الأمريكي إنَّ “هذين المنشورين حُذفا بموجب سياسات الشركة المتمثلة في فرض رقابة على المحتوى المُروّج لمجموعات مصنفة فيدرالياً إنَّها إرهابية. ولم تجب إريكا عن سؤال بشأن كيف يمكن لصورة طفلة عمرها 5 سنوات الترويج للإرهاب.
في الوقت نفسه، أكَّد فلسطينيون في قطاع غزة أن منشوراتهم لا تحتوي على رسائل سياسية أو تتضمن إشارة إلى انتماء لفصائل معينة. قال عصام عدوان، صحفي مستقل مقيم في غزة: “جميع منشوراتي ليست سوى أخبار خالصة عما يحدث، حتى إنني لا أستخدم لغة منحازة للفلسطينيين. أصف الطائرات الإسرائيلية بأنَّها طائرات إسرائيلية ولا أقول إنَّني من مؤيدي حركة حماس أو أشياء من هذا القبيل”.
في المقابل، قال مدافعون عن حقوق الإنسان إنَّ المعاملة الخاصة والاستثناءات الممنوحة للمحتوى الخاص بالهجوم الروسي على أوكرانيا هي أحدث مثال على المعايير المزدوجة وسياسة الكيل بمكيالين التي تتبعها شركة “Meta” تجاه المحتوى الفلسطيني.
على الرغم من أن غالبية مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي المملوكة للشركة الأمريكية يعيشون خارج الولايات المتحدة، يشير منتقدون إلى أنَّ سياسات مراقبة المحتوى تتسق مع مصالح السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
ووفقاً لبيان صادر عن المنظمة الحقوقية الدولية “هيومن رايتس ووتش” في عام 2021، قد ينتهي المطاف بشركة “ميتا” إلى فرض رقابة على أي منشورات داعمة أو متعاطفة سلمياً مع الفلسطينيين بسبب هذا الاسترشاد بالسياسة الخارجية الأمريكية، بما في ذلك القوائم السوداء الأمريكية في مجال مكافحة الإرهاب.
لم تقتصر عمليات حذف المحتوى الفلسطيني على الاستشهاد بسياسة “الأفراد والمنظمات الخطرة” فحسب، بل أُشير أيضاً إلى سياسة الشركة بشأن حظر العنف التصويري والمحتوى العنيف الذي يحض على الكراهية. قد تؤدي تلك القواعد في بعض الأحيان إلى حجب المنشورات، التي تكشف بوضوح حقيقة الأزمات العالمية، بدلاً من تمجيدها، وهو أمر اتخذت الشركة خطوات غير مسبوقة لمنع حدوثه في حالة منشورات الحرب على أوكرانيا”.
ينص دليل “معايير مجتمع” شركة “ميتا” على إزالة المحتوى، الذي يمجّد العنف أو يحتفي بمعاناة الآخرين أو إذلالهم؛ لأنه قد يخلق بيئة تثني عن المشاركة، مع إشارة إلى استثناء مبهم مصحوب ببعض القيود لنوع العنف التصويري الذي يساعد في رفع مستوى وعي الناس حيال القضايا المعنية.
تفرض سياسة المحتوى حظراً شاملاً على مقاطع الفيديو المروعة للجثث وتجعل إمكانية مشاهدة الصور المماثلة مقتصرة على البالغين بدايةً من عمر 18 عاماً فما فوق.
أما أوكرانيا وروسيا.. فالأمر مختلف!
لكن في نسخة داخلية موسعة من هذا الدليل الاسترشادي حصل عليها موقع “The Intercept”، يتضمن القسم الخاص بالمحتوى المصوّر سلسلة من المذكرات توجّه المشرفين بعدم الالتزام بتطبيق القواعد القياسية أو تنفيذ تدقيقاً إضافياً بهدف التأثير في أحداث جارية مُحدَّدة، من بينها الحرب في أوكرانيا.
وجَّهت شركة “ميتا” المشرفين على المحتوى المنشور عبر منصاتها بالتأكد من عدم حذف صور المدنيين الأوكرانيين الذين قُتلوا في القصف الروسي منذ بدايته. يتضمن المحتوى الأوكراني المدرج في القائمة البيضاء مشاهد عنف مشابهة لتلك التي تقيَّد الشركة نشرها بشكل روتيني عندما تصدر من الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين.
وفي تحديث لسياسة المحتوى في 25 فبراير/شباط، أصدرت الشركة توجيهاً لمشرفيها بعدم حذف مقطع فيديو لبعض الخسائر المدنية المبكرة للحرب، وجاء في نص المذكرة الداخلية: “نسمح بنشر هذا الفيديو مع تصنيفه بعلامة تشير إلى أنه محتوى مزعج أو إرفاق تحذير بالصورة أو مقطع الفيديو بدلاً من حذفه تماماً”.
وفي 5 مارس/آذار، سمحت الشركة بنشر مقطع فيديو يصوّر أشخاصاً مشوهين جراء القصف الروسي على مدينة تشيرنيهوف الأوكرانية، مبررة أن هذه اللقطات وجيزة وتبدو في سياق رفع مستوى الوعي بشأن فظاعة هذه الحرب من خلال منشورات ناجين من الهجوم الصاروخي.
تجدر الإشارة إلى أنَّ هذه الاستثناءات الممنوحة للمحتوى الأوكراني المتضمن مشاهد عنيفة أو قاسية ليست سوى غيض من فيض الوسائل التي لجأت إليها شركة “ميتا” لفتح المجال أمام إظهار المقاومة الأوكرانية. اتخذت الشركة، في بداية الهجوم الروسي خطوة نادرة بتعديل مؤقت لسياسة المحتوى المتعلقة بخطاب الكراهية، حيث سمحت بمنشورات مدح “كتيبة آزوف“، وهي وحدة يمينية متطرفة تابعة للجيش الأوكراني ومتهمة بتبني أيديولوجية “النازيين الجدد”، وكانت محظورة سابقاً بموجب سياسة الشركة الخاصة بالأفراد والمنظمات الخطرة.
كانت ماريوبول تمثل المقر الرئيسي لكتيبة آزوف (تعود التسمية إلى بحر آزوف الذي يربط ماريوبول بالبحر الأسود)، ونجحت القوات الروسية في أسر عدد كبير من تلك الكتيبة تحديداً، وهو ما كان له تأثير هام في الحرب النفسية؛ إذ أكد بوتين، من خلال ذلك، للروس أن الجار الأوكراني يسيطر عليه النازيون الجدد.
أفادت أيضاً وكالة أنباء “Reuters” في مارس/آذار بأن شركة “ميتا” سمحت مؤقتاً لمستخدمي فيسبوك وإنستغرام بالدعوة صراحةً لقتل الجنود الروس، وهو خطاب ينتهك بطبيعة الحال سياسة المحتوى لدى الشركة.
أكد مدافعون عن حقوق الإنسان أنهم غير مستائين من توفير حماية إضافية للمحتوى المنشور من جانب الأوكرانيين، لكن من عدم اتخاذ الشركة إجراءات مماثلة لحماية منشورات المدنيين المحاصرين في أماكن أخرى بالعالم من الحذف بموجب سياسة الرقابة على المحتوى لدى الشركة.
ماذا يعني ذلك لحرية التعبير إذاً؟
قالت مروة فتافطة، مديرة سياسات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة “Access Now”، إن “حقوق الإنسان ليست ممارسة انتقائية. من الجيد اتخاذ الشركة مثل هذه الإجراءات المهمة تجاه أوكرانيا، لكن الإحجام عن فعل نفس الشيء تجاه فلسطين يؤكد على نهجها التمييزي فيما يخص تطبيق سياسات المحتوى”.
وتكشف وثائق حصل عليها موقع “The Intercept” أن القائمة البيضاء للمواد المتعاطفة مع أوكرانيا لم تقتصر على المحتوى المنشور من مدنيين أوكرانيين فحسب، بل امتدت إلى المواد الدعائية الحكومية.
تبين الوثائق أن شركة “ميتا” تركت على منصّاتها مقاطع فيديو دعائية نشرتها الحكومة الأوكرانية لكي تسلّط الضوء على العنف الروسي ضد المدنيين، من بينها مقطع فيديو في مارس/آذار بعنوان “أغلقوا السماء فوق أوكرانيا” يناشد فيه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الكونغرس الأمريكي دعم فرض حظر جوي فوق أوكرانيا.
وفي 13 مايو/أيَّار، أصدرت شركة “ميتا” تعليمات للمشرفين بعدم حذف مقطع فيديو نشرته وزارة الدفاع الأوكرانية يتضمن صور جثث محترقة. جاء في نص هذا التحديث لسياسة المحتوى: “على الرغم من أن مثل هذه المواد محظورة بموجب سياسة المحتوى المتعلقة بالعنف التصويري، تُمثّل هذه اللقطات الموجزة استثناءً يستحق النشر؛ لأنها توثّق نزاعاً مسلحاً جارياً”.
لا تُظهر الوثائق الداخلية، التي اطَّلع عليها موقع “The Intercept” أي تدخلات من هذا القبيل لصالح الفلسطينيين، لم تصدر الشركة قوائم بيضاء لتمرير المواد الدعائية المُصمّمة لإثارة التعاطف مع المدنيين الفلسطينيين أو توجيهات باستخدام علامات تحذيرية، بدلاً من الحذف، للمحتوى المتضمن مشاهد قاسية تصوّر حجم الأذى الذي يلحق بالفلسطينيين على أيدي الجيش الإسرائيلي.
قال عمر شاكر، مدير مكتب منظمة “هيومن رايتس ووتش” في إسرائيل وفلسطين: “ينبغي لشركة “ميتا” احترام حق الناس في التعبير والتحدث علانية، سواء في أوكرانيا أو في فلسطين”، مضيفاً أن “تعمّد الشركة إسكات أصوات الكثير من الأشخاص بصورة تعسفية ودون مبرر يجعلها تكرر في الواقع الافتراضي بعضاً من نفس الممارسات المجحفة وانتهاكات حقوق الإنسان التي نراها في الواقع الحقيقي”.