في الفضاء السيبراني، كما هو الحال في جميع المجالات الأخرى، البرية والبحرية والجوية والفضائية، غالباً ما تؤدي التفاعلات إلى ظهور دول مهيمنة تتميز بتأثيرها الغالب على النظام العالمي وجميع الدول الأخرى.
وكما هو معروف؛ فإنّ وسائل إنتاج الصّناعة الرّقمية وأجهزتها وبرمجياتها الأكثر تعقيداً وفعاليّة ماتزال حكراً على دول وحكومات وشركات عملاقة دون أخرى في إطار علاقة غير متكافئة بين الصّانع والمستهلك، وبما يصاحب ذلك الاحتكار من إملاءات معلنة أو ضمنيّة وشروط مفروضة تصب غالباً أو دائماً في المحافظة على مصالح القوى المنتجة دون اعتبار لمصالح المستهلكين (المستخدمين).
الفضاء السيبراني
هذا المشهد بطبيعة الحال يقودنا للحديث عن الهيمنة في الفضاء السيبراني باعتباره مجالاً منتشراً للقوة حيث يكون التعاون أسهل بهذا الفضاء من أي مكان آخر وأقل ملاءمة لنوع الهيمنة الذي نراه في المجالات التقليدية على صعيد العلاقات الدولية.
إن مفهوم التحكم الرقمي كموضوع للنقاش ظهر مع استمرار ارتفاع عدد الأشخاص الذين يستخدمون الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الرقمية الأخرى والذين يبلغ عددهم حتى كتابة هذه السطور حوالي 5.18 مليار شخص في العالم ، أي نسبة 64.6% تقريباً من سكان المعمورة، على اعتبار أن عدد سكان العالم حوالي 8.03 مليار نسمة. وبالتالي؛ عندما تمارس بعض الدول أو الشركات أو الكيانات الأخرى تأثيراً غير متناسب على المشهد الرقمي العالمي يتجلى هنا مفهوم “الهيمنة ” على الموارد ذات العلاقة بالفضاء السيبراني وبنيته التحتية وهو الأمر الذي أتاح لبعض الدول تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية والعلمية بينما ظلت مكاسب دول أخرى متأخرة بهذا المضمار رهينة بمدى خضوعها لشروط منظومة رقمية تتجاوزها ولا تملك بحال التّأثير في توجيهها مقارنة بالقوى الدولية المتقدمة تكنولوجيا والتي تمتلك بنية تحتية حديثة، ومعرفة، وقدرة على توليد أفكار أصلية في الفضاء الرقمي.
الصراع المعقد
تخوض الولايات المتحدة والصين صراعاً معقداً من أجل الهيمنة التكنولوجية؛ إذن يعتبر التنافس من أجل التفوق الرقمي أمراً بالغ الأهمية في عالم اليوم المترابط والمدفوع بالتكنولوجيا وثورة الذكاء الاصطناعي.
ورغم أن الولايات المتحدة مازالت تُصنّف في طليعة الابتكار الرقمي لهذا الفضاء بسبب بنيتها التحتية التكنولوجية المتقدمة ومواردها الأكاديمية الوفيرة وقوانين الملكية الفكرية الصارمة وتسيّد شركاتها التكنولوجية السوق الرقمية في جميع أنحاء العالم؛ إلا أنه بالمقابل ثمة نمو لاقتصاد سوق الإنترنت في الصين سيما على صعيد التجارة الإلكترونية والأنظمة الحاسوبية في مجال الابتكار التكنولوجي.
طريق الحرير
وهناك عدة مبادرات رقمية في الصين مثل “صنع في الصين 2025” و “طريق الحرير الرقمي” ، وكلاهما لهما هدفهما الشامل في جعل الصين رائدة عالمياً في مجال الابتكار التكنولوجي والرقمي.
لا شك أن النظام العالمي يتأثر بشدة بالصراع بين الولايات المتحدة والصين والتوترات الجيوسياسية المستمرة بين البلدين من أجل الهيمنة الرقمية والتحكم بتكنولوجياتها، فثمة عواقب بعيدة المدى نتيجة هذا التنافس ليس فقط على التكنولوجيا ولكن أيضاً على الاقتصاد والأمن القومي والقيم الرقمية الأساسية، وما قد ينتج عن هذه المنافسة من فصل سلاسل التوريد التكنولوجي الذي قد يضر بالتجارة العالمية والاعتماد الاقتصادي المتبادل.
وتثير هيمنة قوة واحدة على سوق التكنولوجيا مخاوف بشأن أمن البيانات والمراقبة والخصوصية، فالصراع من أجل التفوق الرقمي بين الولايات المتحدة والصين يعد عاملاً رئيسياً في العلاقات الدولية. فكلا البلدين مهتمان بتوجيه تطوير المعايير والبنية التحتية التي ستحكم مستقبل الإنترنت. وهذا له آثار بعيدة المدى على التجارة الدولية والسلامة، والحوكمة السيبرانية.
تجاذبات خطيرة
قراءة متأنية للمعطيات والأرقام الصادرة عن مراكز البحث المتخصصة بهذا المجال تؤشر إلى أن العالم سيشهد تجاذبات خطيرة ومزيداً من التوتر والأزمات والصراعات المترتبة على الهمينة السيبرانية في الأعوام المقبلة.. وعليه؛ فإنّ تعزيز الدول لمنظوماتها “الأمنية الرقمية” لم يعد ترفاً بل أحد أهم الضرورات للحفاظ على الأمن بمفهومه الشامل وذلك مع تصاعد دور الفاعلين وغير الفاعلين من غير الدول في العلاقات الدولية ودخولها مجال الصراع الإلكتروني.
ويبدو الثابت اليوم في العلاقات الدولية وتوازنات القوى أن الحرب الباردة والصراع السياسي والتجاري بين الأقطاب في العالم تحوّل إلى حرب سيبرانية صامتة، وقد تكون مدمرة في الأعوام المقبلة؛ من هنا بدأت دول العالَم، الواحدة تلو الأخرى، تستكشف الخيارات المتاحة لتعزيز قدراتها الهجومية في الفضاء السيبراني، وقد أعدت دول كثيرة عدتها للتحول إلى مرحلة جديدة لإعادة حساباتها ومراجعة أولوياتها بهذا المجال.
تغيير العالم
عودٌ على بدء فإن الهيمنة الرقمية ظاهرة متعددة الجوانب تعمل على تغيير العالم كما نعرفه. في حين أن التكنولوجيا قد تفتح طرقاً جديدة للاكتشاف والتواصل، فإنها تشكل أيضاً تحديات وتهديدات كبيرة للمجتمعات في جميع أنحاء المعمورة.
فالثورة الرّقمية وإن أتاحت لبعض الدول أو المجموعات البشريّة تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية والعلمية، فإنّ تلك المكاسب تظلّ رهينة بمدى خضوعها لشروط منظومة تتجاوزها ولا تملك بحال التّأثير في توجيهها كما ذكرنا أعلاه؛ ومن الأدلّة على زيف مبدأ لامركزيّة شبكة الإنترنت استمرار الوكالات الأمريكية مثل (الأيكان) في التّحكّم في إدارتها واحتكارها لإسناد العناوين الإلكترونيّة وأسماء المجالات للمستخدمين عبر أنحاء العالم وإحاطة المفاتيح المتحكمة في أنظمتها القاعدية بالسرية المطلقة وبإجراءات أمن استثنائيّة.
المصدر | القدس العربي .