“فرقة العاشقين” أو “أغاني العاشقين”، هذه التسميات التي نالتها، لم تأت من فراغ، فقد أصابت قدرا وافرا من الشهرة والصيت والإعجاب فلسطينيا وعربيا وعالميا، ومارست الغناء الفلسطيني، وأنشدت كلماته ووزعت ألحانه بكل إتقان وجدارة.
وهذا ما جعلها صوت فلسطين الحر الذي أثبت حقيقة أن الثورة الفلسطينية المعاصرة لم تكن بندقية ثائر فقط، بل كانت بُعدا ثقافيا شكّل حالة استثناء تاريخي لهوية شعب اقتُلع من أرضه وأصبح لاجئا.
غنت “فرقة العاشقين” في العواصم العربية، وقامت بجولات غنائية في العديد من الدول الغربية منها اليونان والولايات المتحدة الأميركية وكندا وبريطانيا وغيرها، ونالت جائزة في مهرجان “نانت” الفرنسي للفن الشعبي وغيرها من الجوائز التقديرية.
لعبت “فرقة العاشقين” دورا مهما وأساسيا في خلق وتطوير حالة الوعي الوطني لدى الشعب الفلسطيني بكل فئاته، وأسهمت الفرقة بأغانيها وكلماتها وأصواتها ودبكاتها في بث روح المقاومة والنضال والتحدي، فغنت للشهيد والأسير والجريح وللمخيم والقرية والمدينة وللفلاح وللفدائي وللعلم وللكوفية والبندقية، وللعودة والتحرير.
وكانت أغانيها على الدوام محفزا ودافعا للفعل النضالي ومحركا للمشاعر الوطنية، وأصبحت أغانيها فيما بعد تعبر عن مرحلة مهمة من مراحل النضال وتمارس أغانيها مهمة أخرى غير مهمتها الرئيسية، فأصبحت بهذا المعنى تجسد الروح الوطنية السائدة وتعبر عنها، بل وتؤرخ وتوثق لمسيرة طويلة من النضال.
وإضافة إلى ذلك ثمة مهمة رئيسية حملتها على عاتقها بكل جدارة، حيث حملت راية التثقيف الوطني بامتياز، ورفعتها عاليا وحافظت عليها راية خفاقة تُسعد القلوب وتفرح العقول، بتقديمها مشهدا بانوراميا عاما للغناء الوطني المُلتزم، ودوره في نشر الثقافة والوعي الوطني وفي التعبئة والتحريض على مقاومة المحتل الصهيوني، بما يشكل مصدرا ومرجعية مهمة لأي باحث ومهتم بالأغنية الوطنية الفلسطينية، أو ما اصطلح على تسميته بالأغنية السياسية المُلتزمة.
ولدت فكرة تأسيس الفرقة بذهن الراحل عبد الله الحوراني، أما الذي شكلها فعليا وأعطاها اسمها الأول، فهو حسين نازك الذي بدأ بجمع العناصر اللازمة من الفلسطينيين المقيمين في سوريا
النشأة والتأسيس
فكرة إنشاء الفرقة ولدت في ذهن الراحل عبد الله الحوراني، أما الذي شكلها فعليا وأعطاها اسمها الأول، فهو حسين نازك الذي بدأ بجمع العناصر اللازمة من الفلسطينيين المقيمين في سوريا، إضافة إلى بعض الكوادر من السوريين مثل ميزر مارديني الذي تولى مهمة تصميم الرقصات والتدريب عليها، والشقيقتين مها وميساء أبو الشامات اللتين عملتا في مجال الكورال، ومعهما مها دغمان التي نجحت في تقديم صوت صولو لافت للنظر والسمع.
ولم تلبث الفرقة أن وُفقت بالاهتداء إلى أسرة الهباش، المؤلفة من 3 شبان أشقاء (خليل وخالد ومحمد)، وشقيقتين (آمنة وفاطمة)، وكانت أهمية هذه الأسرة بتركيبتها، فمن جهة كان لوجود فتاتين تعملان مع أشقائهما أثر في تشجيع الفتيات على الانضمام إلى الفرقة، ومن جهة ثانية كان الإخوة بارعين في العزف النوعي، فخالد كان يعزف على القانون والشبابة، وكان خليل بارعا في استخدام الإيقاع (الطبل والدف)، أما صغيرهم فهو محمد الهباش، الذي أطلق عليه في حينها لقب “الطفل المعجزة”.
وبين هذه المجموعة المهمة من الكوادر، لا بد من التوقف وذكر أحمد الناجي ومحمد الرفاعي اللذين يتمتعان بصوتين جميلين، صالحين للغناء الفردي ومشاركة الكورال.
بدأت الفرقة مع الأغاني التصويرية، سطع نجم فرقة “أغاني العاشقين” سريعا، وتبدل اسمها إلى “فرقة العاشقين” كونها ضمت العديد من الفنون الأخرى غير الغناء
الانطلاقة الأولى للفرقة
كانت الانطلاقة الأولى لفرقة “أغاني العاشقين” من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا عام 1977، وكانت نواة الفكرة مع تقديم مسرحية (المؤسسة الوطنية للجنون)، التي ألفها الشاعر الفلسطيني سميح القاسم وأخرجها المخرج السوري فواز الساجر.
ورأى القائمون على العمل أن يقوموا بإعداد بعض الأغاني لترافق المسرحية، فتم تكليف الشاعر أحمد دحبور بكتابة الكلمات، والفنان حسين نازك بتلحينها، فكانت أغنية (اللوز الأخضر) هي النواة الأولى لفرقة “أغاني العاشقين”، وأطلق الملحن حسين نازك هذا الاسم عليها وكان له الفضل بتجميع أعضائها.
بدأت فرقة “أغاني العاشقين” مع الأغاني التصويرية، وسطع نجمها سريعا، وتبدل اسمها إلى “فرقة العاشقين” كونها ضمت العديد من الفنون الأخرى غير الغناء، كما كانت الانطلاقة الكبيرة للفرقة من خلال تسجيل أغاني المسلسلات التي أنتجتها دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية أواخر السبعينيات، حيث قدمت الفرقة أغاني مسلسل “بأم عيني” الذي تناول قصصا واقعية للأسرى الفلسطينيين بالسجون الصهيونية مع ما رافقه من تعذيب وإهانات، عام 1981.
كذلك أغاني مسلسل (عز الدين القسام)، عن قصة ثورة الشيخ السوري المجاهد الشهيد ابن مدينة جبلة السورية عز الدين القسام في فلسطين المحتلة ضد الاحتلال البريطاني الصهيوني، عام 1981.
وقد كتب كلمات الأغاني الشاعر صلاح الدين الحسيني ولحنها حسين نازك، الذي بدوره طوّر إسهاماته الموسيقية حتى بلغت ذروتها مع الفرقة من الأغاني إلى العرض المركب من غناء ورقص تعبيري.
الفنان حسين منذر (أبو علي) أحد المؤسسين الرئيسيين لـ”فرقة العاشقين”، وقد غنى لفلسطين ما يزيد على 300 أغنية
حسين منذر .. “ملك الأغنية الوطنية”
هنا برز حسين منذر (أبو علي)، الصوت الجبلي القوي الذي يجمع القوة إلى القدرة على التعبير، ومن الطريف أن هذا الذي أصبح مغني فلسطين الأول، كان ذا لهجة شامية متميزة كأنه ابن أحياء الشاغور أو الميدان، بحيث كانت بعض الأوساط تدعوه بالفنان الشامي، وهو اللبناني البعلبكي، ابن المقاومة الفلسطينية، فهو مشروع عربي فلسطيني شامي لبناني بامتياز.
وقد أصبح الأيقونة التي اهتدى اليها حسين نازك ليتكرس رمزا للمشروع الفني الجديد، وكان يطلق عليه “ملك الأغنية الوطنية”، الذي تشرب في أحاسيسه ووجدانه، روح الانتماء لفلسطين، في المرحلة التي سبقت والتي تلت معركة وحصار بيروت المفخرة، فكان أحد المؤسسين لفرقة العاشقين عام 1978، بإشراف دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، وبشخص رئيسها في تلك الفترة الراحل عبد الله الحوراني.
إذًا كان الفنان حسين منذر (أبو علي) أحد المؤسسين الرئيسين “لفرقة العاشقين”، وقد غنى لفلسطين ما يزيد على 300 أغنية، ومن أشهر أغانيه “من سجن عكا طلعت جنازة، واشهد يا عالم علينا وع بيروت، وهبت النار”.
فحين أتى حسين منذر (أبو علي)، إلى سوريا وجدت خبراته متسعا للتعبير عنها في المسرح العربي السوري، حيث كان يضع الموسيقى التصويرية لعدد كبير من المسرحيات في سوريا متعاونا في ذلك مع فنيي المسرح وفنانيه هناك، ولعل أول مبادرة له تجاه عمل فني فلسطيني كانت يوم وضع قطعة موسيقية مركبة بعنوان “الحمة”.
و”الحمة” بحيرة سورية وقعت تحت الاحتلال الصهيوني شهدت ضفافها معارك والتحامات مع العدو الصهيوني، ومن هذه المعارك موقعة مجيدة إثر اشتباك مجموعة فدائية مع العدو الصهيوني، بدعم من الجيش السوري، إلا أن التعاطف العربي العارم مع التجربة الفلسطينية الوليدة، كرّستها لحظة نوعية في سجل المقاومة الفلسطينية (تشبه تجربة معركة الكرامة).
أما على المستوى الفني فقد كان استقبال هذا العمل شعبيا ذا طبيعة معنوية، لأن الثقافة الموسيقية كانت، ولا تزال عند العرب أقل من أن تكتسب شعبية باللحن المجرد غير المزود بالكلمات، ولكن المهم أنها كانت علامة فارقة على طريق البدايات، لا سيما أن حسين منذر سرعان ما أنشأ علاقة ناجحة مع الإعلام الفلسطيني في مصر حيث تبث برنامجا من إذاعتها “صوت الثورة الفلسطينية”، دعما للمقاومة الوليدة، ومن المعروف أن أغنيات وأناشيد مبكرة للفرقة قد ظهرت في هذه الإذاعة.
رحل مطرب الثورة الفلسطينية وقائد “فرقة العاشقين” الفنان حسين منذر “أبو علي”، ملك الأغنية الوطنية، صاحب الصوت الذي صدح كفاحا ونضالا في وجه الطغاة، وحقه علينا، أن نستذكره ونُكرمه، فقد تناساه البعض، وتناسوا “فرقة العاشقين”، لكن التاريخ المكتوب، والمشفوع بالأغنية الوطنية والتراثية، يبقى هو التاريخ، الذي لا يستطيع أحد مسحه.
رحم الله “أبا علي” وأسكنه فسيح جناته.
المصدر : الجزيرة نت.