أقلام حرة

اغتيال الصورة: حين يتحوّل الصحفي إلى هدف حربي*

في الحروب التقليدية، يكون الصحفي شاهدًا. أما في الحروب القذرة، يُصبح الصحفي هدفًا. هكذا يمكن فهم إصرار إسرائيل، عبر سنوات طويلة من الصراع، على جعل الصحافة الحرة في مرمى النيران، ليس صدفة ولا خطأ تقديريًا، بل كجزء أصيل من استراتيجيتها الحربية. فالاحتلال لا يقاتل فقط على الأرض، بل يقاتل على السردية، ويخوض معركته الأشد ضراوة ضد الكاميرا والصوت والذاكرة.

ليست الكارثة في أن يُقتل الصحفي، بل في أن يُقتل لأنه صحفي. أن يُقتل لأنه يحمل كاميرا بدلًا من بندقية، ودفترًا بدلًا من خارطة عسكرية. في الذهنية الإسرائيلية، ثمة إدراك عميق بأن الكاميرا التي ترصد الدمار، وتوثق الجثث، وتروي حكايات الأحياء تحت الركام، قادرة على هزيمة القذيفة. لأن الصورة حين تنقل الحقيقة، تتحول من وثيقة إعلامية إلى لائحة اتهام.

في سجل إسرائيل الحربي، ثمة ما يشي بنمط مقصود، لا لبس فيه. القتل الانتقائي للصحفيين، تدمير مقرات القنوات، قصف الأبراج التي تضم وسائل الإعلام، كلها ممارسات تتجاوز منطق الحرب، لتدخل في حيز “تكميم الشهود”. الاحتلال لا يكتفي بإسكات الضحية، بل يريد إسكات من يرويها. يريد محو المرايا التي تعكس وجهه القبيح.

في أعماق العقلية الأمنية الإسرائيلية، ثمة هلع من الصورة. ليس لأنها تفضح، فحسب، بل لأنها تصمد. الرصاصة تنتهي بانفجارها، أما الصورة فتبدأ أثرها بعد لحظة الالتقاط. هي تنجو من الغارات، وتُهرب من تحت الردم، وتشق طريقها إلى العالم، حاملة على أكتافها وجعًا لا يمكن تفسيره بلغة العسكر.

هكذا يتحول استهداف الصحفيين إلى فعل رمزي وسياسي في آن. هو إعلان خوف، وخطة حرب، ورسالة موجهة للجميع: لا شهود في معركة الهيمنة. ومن يجرؤ على الحضور، فإن مصيره الشطب. وما بين قذيفة وقذيفة، يسقط شاهد، وتسقط معه سطور من التاريخ، وتُطوى فرصة لتوثيق الحقيقة كما كانت.

لكن المفارقة التي تُربك حسابات الاحتلال أن الكلمة تكتب نفسها حتى بدم صاحبها، وأن الصورة، مهما تمّ طمسها، تُستعاد في ذاكرة الشعوب كأيقونة. الصحفي المستهدف لا يموت، بل يتحول إلى وثيقة حيّة، تواصل مهمتها من بعده. فالعدو الذي يخشى الصورة، لن ينجو منها.

أحمد نبيل غانم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى