منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023 يعيش أكثر من مليوني فلسطيني تحت وطأة ظروف إنسانية كارثية غير مسبوقة؛ الحصار الإسرائيلي المستمر والتدمير الشامل للبنية التحتية والعرقلة الممنهجة لإدخال أبسط المساعدات الإنسانية العاجلة، إلى جانب استمرار القصف والعمليات العسكرية، كل ذلك خلق أزمة إنسانية وصفتها الأمم المتحدة ومنظمات دولية بأنها تشكّل “مجاعة جماعية”، متهمة إسرائيل بفرض ظروف “تجويع” متعمّد لسكان القطاع بهدف الدفع إلى تهجيرهم وتوسيع “بيئة الإبادة الجماعية” في القطاع.
ففي مطلع تموز/يوليو العام الماضي، أعلنت مجموعة من الخبراء المستقلين في الأمم المتحدة في بيان صحفي أن إسرائيل تشنّ “حملة تجويع متعمّدة ومحدّدة الهدف” وأنّ ذلك “شكل من أشكال عنف الإبادة الجماعية”. كما أوضح البيان أن تزايد حالات الوفاة بين الأطفال الفلسطينيين بسبب الجوع وسوء التغذية “لا يترك أي مجال للشكّ في أنّ المجاعة قد تفشّت في جميع أنحاء قطاع غزّة”.
إلا أن شبح المجاعة كان قد خيّم على سكّان غزّة بعد أشهر معدودة فقط من بدء الحرب إبان السابع من أكتوبر؛ ففي الدعوى التي أقامتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل ثمة بنود في نص الدعوى توضّح كيف دفعت إسرائيل القطاع بأكمله إلى “حافّة المجاعة”، كما تتواتر في الدعوى شهادات خبراء ووكالات دولية بشأن خطر الجوع هناك وارتفاع مستوياته، حتى في ما كان يسمّى “المناطق الآمنة”.
في الحالة الفلسطينية – كما هي في قطاع غزّة خلال هذه الحرب – تفادت معظم وسائل الإعلام الغربية الكبرى استخدام توصيفات قانونية وأخلاقية دقيقة، مثل “مجاعة” (famine) أو “تجويع ” (starvation) ولجأت إلى تعابير فضفاضة مثل “نفاد الغذاء” أو “أزمة تغذية” وهي تعابير تحوّل وقائع موصوفة صحفيًا وقانونيًا بأنها “مجاعة” إلى مجرّد أزمات محتملة.
أما مؤسسة “آي بي سي” (IPC) التي تعدّ الجهة المعتمدة دوليًا في تصنيف مستويات الأمن الغذائي فقد أعلنت في تقريرها الصادر في 18 آذار/مارس 2024 عن تفعيل لجنة مراجعة “المجاعة” في المؤسسة للنظر في الظروف الغذائية المتدهورة وذلك بالنظر إلى شدة الأدلة المتوفّرة، كما أكّدت المؤسسة في تقريرها أن نتائج مراجعة اللجنة تشير إلى أن المجاعة في ذلك الحين (أي في الربع الأول من العام الماضي) “متوقعة ووشيكة في محافظتي شمال غزة وغزة، ومن المرجّح أن تنكشف بشكل فعلي في الفترة ما بين منتصف آذار/مارس 2024 وآذار/مايو 2024.” كما عادت المؤسسة وأكدت في آخر تقرير لها في 12 أيار/مايو 2025، أن “سكان غزة بأكملهم يواجهون خطرًا حرجًا يتمثل في المجاعة” وذلك بحسب ما نقلته عنها وكالة رويترز.
وعليه، فإن المؤشرات على هذه الكارثة واضحة وموثقة موضوعيًا في عدد من التقارير المستقلة والمعتبرة المعترف بها، ورغم ذلك فإن جزءًا من التغطية الإعلامية الغربية ظلت – في كثير من الأحيان – متحفّظة في بيان هذا الجانب من المأساة التي يعاينها الناس جميعًا اليوم في غزّة، مع تجنّب استخدام مصطلح “مجاعة” رغم توفر شروطه القانونية والإنسانية.
ولعل هذا الانحياز المهني يتجلى بشكل خاص في التناول المحدود في وسائل إعلام غربية لسياسة التجويع التي تمارسها إسرائيل وتتبناها علنًا وبشكل ممنهج، مع أنّ ذلك يشكّل جريمة حرب وجرائم ضدّ الإنسانية بحسب تقارير عديدة مبكّرة؛ كان من أبرزها تقرير هيومان رايتس ووتش “إسرائيل: استخدام التجويع كسلاح حرب في غزّة” الذي صدر في 18 ديسمبر/كانون أول 2023.
“مجاعة” أم “أزمة جوع”؟
يعد انتقاء المفردات والمصطلحات أحد أبرز أنماط التحيّز الإعلامي، خصوصًا في السياقات التي تتقاطع فيها الكوارث الإنسانية مع حسابات السياسة والاقتصاد المعقّدة. ففي الحالة الفلسطينية – كما هي في قطاع غزّة خلال هذه الحرب – تفادت معظم وسائل الإعلام الغربية الكبرى استخدام توصيفات قانونية وأخلاقية دقيقة، مثل “مجاعة” (famine) أو “تجويع ” (starvation) ولجأت إلى تعابير فضفاضة مثل “نفاد الغذاء” أو “أزمة تغذية” وهي تعابير تحوّل وقائع موصوفة صحفيًا وقانونيًا بأنها “مجاعة” إلى مجرّد أزمات محتملة، أو في أسوأ الأحوال “مشاكل فنيّة” أو “لوجستيّة”، وهو ما يحدّ بالتالي من مدى التضامن والتعاطف مع الضحايا.
هذا التحفظ العامّ المرصود في وسائل إعلام غربية بشأن تسمية حالة الانهيار الكامل في الأمن الغذائي للفلسطينيين في غزّة “مجاعة”، هو محاولة أخرى ضمن أنماط التحيز والتضليل التي تخفف من وقع المأساة وتنأى بالمسؤولية عن الجاني. وهكذا، يصبح التلاعب بالمصطلحات أداة لنزع الصفة الجنائية عن الجريمة، وتمييع جانب المساءلة فيها.
هذا التردد في التسمية ليس مجرّد مشكلة اصطلاحية أو خيارا تحريريا بين خيارات مهنية متعددة، بل إنه يحمل دلالات واضحة ضمن آلية من إعادة إنتاج الحقائق فيما يتعلق بالحرب الإسرائيلية على غزّة، ضمن نظام إعلاميّ رأسمالي ينحاز إلى المصالح الضيقة للنخب المهيمنة، ولو على حساب القيم والمعايير الصحفية الأساسية. فهذا التحفظ العامّ المرصود في وسائل إعلام غربية بشأن تسمية حالة الانهيار الكامل في الأمن الغذائي للفلسطينيين في غزّة “مجاعة”، هو محاولة أخرى ضمن أنماط التحيز والتضليل الأخرى؛ للتأثير في الرأي العام وتوجيهه ومحاولة حصر السردية في مفردات وصياغات مبهمة يعاد إنتاجها على نحو واسع، تخفف من وقع المأساة وتنأى بالمسؤولية عن الجاني. وهكذا، يصبح التلاعب بالمصطلحات أداة لنزع الصفة الجنائية عن الجريمة، وتمييع جانب المساءلة فيها.
وعلى سبيل المثال، سلط تحقيق رويترز الضوء على تردد النظام الدولي – بما في ذلك المنظمات الإنسانية الكبرى – في إعلان حالة المجاعة رسميًا في قطاع غزّة بهذا المصطلح رغم وفرة الأدلة. ويشير التقرير إلى حالة من التنسيق غير المعلن عنه، بحيث تتيح إسرائيل بين فترة وأخرى دخول قدر محدود من المساعدات، بهدف تأخير إعلان منظمة ما عن حالة المجاعة، وهو ما انعكس بدوره على الإعلام الغربي الذي يأخذ إشاراته من هذه المؤسسات.
يذكر التقرير نقلًا عن جيريمي كونيندي رئيس منظمة “اللاجئين الدولية” أن إصدار إعلان رسمي حول وجود مجاعة في غزة كان يمكن أن يمثل إشارة حاسمة على الكارثة التاريخية الجسيمة الناجمة عن العمليات العسكرية التي تنتهجها إسرائيل”؛ فكلمة “المجاعة” بحسب كونيندي “تحمل قدرًا هائلًا من القوة؛ فهي تنقل الأمر من مجرد توصيف تقني إلى حكم تاريخي” إلا أنّه حكم حاولت إسرائيل – بنجاح حتى اليوم – التنصّل منه، وقد ساعدها في ذلك الدور الذي أدّته وسائل الإعلام.
كلمة “المجاعة” بحسب كونيندي “تحمل قدرًا هائلًا من القوة؛ فهي تنقل الأمر من مجرد توصيف تقني إلى حكم تاريخي” إلا أنّه حكم حاولت إسرائيل – بنجاح حتى اليوم – التنصّل منه، وقد ساعدها في ذلك الدور الذي أدّته وسائل الإعلام.
فمن المبادئ الجوهرية للعمل الصحفي تقديم وجهات النظر المختلفة باعتبار ذلك ضمانة لتعدد الأصوات وتوزان التغطية وتجنب الانحياز، غير أن هذا المبدأ على أهميته يتحول في بعض السياقات إلى وسيلة لتشويه الحقيقة، خاصة عندما يتم تطبيقها على وقائع موثقة تتعلق بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية؛ ففي التقارير التي سلطت الضوء على الواقع الغذائي في قطاع غزة، وفي صحف ووسائل إعلام كبرى؛ مثل شبكة سي أن أن، وبي بي سي، ونيويورك تايمز، وغيرها، بدا الالتزام بهذا “التوازن” دالًا على خلل عميق في أخلاقيات الصحافة والعمل الإعلامي المهيمن غربيًا، بحيث يؤدي إلى تحويل قضايا – مثل استخدام الجوع سلاحا – إلى أمر قابل للنقاش الأخلاقي والتداول والتشكيك، وذلك بمجرّد تصدير رواية مضادّة من الناطق باسم الحكومة أو الجيش الإسرائيليين، تحت دعوى “التوازن” في التغطية، ومن دون قدرة في كثير من الأحيان على توجيه الأسئلة الصعبة إليهم.
ثمة استثناءات في هذا المشهد؛ كتلك الافتتاحية التي ظهرت في الغارديان الرابع من مايو/أيار 2025، التي أشارت في عنوانها إلى استخدام الاحتلال الإسرائيلي للجوع كسلاح حرب في غزة، وأن المجاعة هناك ليست مجرد نتيجة عرضية للحرب، بل أداة ممنهجة لتجويع السكان.
إن هذا النمط من التعمية على الجريمة في غزة ليس جديدًا ولا يمثل انحيازًا عرضيًا، بل هو مظهر لبنية استعمارية وعنصرية عميقة في نظم الإعلام الغربية، تعيد إنتاج تفاوتات القوة والهيمنة، فترى في المراسل الأجنبي أو المتحدث باسم المؤسسات الغربية المصدر الموثوق الوحيد، بينما تُهمَّش الأصوات المحلية رغم كفاءتها وتضحياتها من أجل نقل الحقيقة.
هذا الشكل من التغطية الصحفية بشأن المجاعة في قطاع غزة يُفرّغ المسألةَ من بُعدها الإنساني العاجل عبر تقديمها بلهجة إدارية منزوعة من التجربة الإنسانية، وتتحول مع ذلك صور الأطفال والشيوخ والمرضى الذين يموتون جراء الجوع إلى مجرد أرقام في تقارير تتضمن شتّى أشكال التشكّك والتحفظ مع الحرص الدائم على عرض الرواية الإسرائيلية بل حتى تصديرها.
إن هذا التحيّز المنهجي للرواية الرسمية الإسرائيلية لا يعكس فقط كسلًا صحفيًا أو ضعفًا في الوصول للمصادر الفلسطينية، بل يعكس أيضًا إطارًا معرفيًا موروثًا لا يزال يحكم تمثيلَ الفلسطينيِّ في الخطاب الإعلامي الغربي؛ إذ يرى الفلسطينيين ضحايا غيرَ جديرين بالثقة أو التعاطف، ويمنح الرواية الإسرائيلية شرعية تلقائية بوصفها “رواية الدولة الديمقراطية الحليفة للغرب”.