افتتاحية
“الكاميرا مقابل الغذاء”
في سنة 1995 أطلقت الأمم المتحدة برنامج “النفط مقابل الغذاء” للتخفيف من وطأة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على العراق. قيل يومها إن الإنسان العراقي المسحوق من أثر العقوبات لا علاقة له بالنظام! أما اليوم فإنّ غزة تؤسس في سياق حرب الإبادة الجماعية برنامجا جديدا يرعاه الجوع و”يغذيه” فشل المنظومة الدولية في حماية الفلسطينيّين من الموت.
الزميل بشير أبو الشعر الصحفي الفلسطيني في غزة تجاوز بيروقراطية المؤسسات الدولية ليطلق برنامجه بصيغة واضحة لكنها مؤلمة:
الكاميرا مقابل كيس دقيق.
يشرح أبو الشعر صيغة البرنامج على النحو التالي:
“نظرا للغلاء الفاحش في أسعار الدقيق وغيرها من المواد الغذائية والاستغلال القذر من مجرمي السيولة النقدية، فإنني قررت استبدال كاميرتي كانون D80 (مال حلال الحمد لله) بكيس دقيق حتى أسدّ جوع أطفالي فما عادت فينا طاقة لنتحمل ضيق العيش وقهر المجاعة ولن أنتظر موت أطفالي أمام ناظري بسبب الجوع، فمن لديه الرغبة فليتواصل على الخاص، فقط أريد استبدال الكاميرا بشوال دقيق”.
ما معنى أن يصل اليأس بصحفي إلى درجة أن يعرض كاميرته للبيع؟!
لا يلجأ الإنسان إلى إعلان جوعه أمام الناس إلا حين ينهار كل شيء أو في لحظات العجز الكبرى، ولا يبيع المرء أغراضه وأدوات عمله إلا حين تصبح حياته على المحك، وأبو الشعر الذي يكثّف مأساة الفلسطيني في غزة، وصل إلى مرحلة يفاضل فيها بين عمله وبين حياة أبنائه؛ فاختار بغريزة الأبوة القوية أبناءه.
في مكان آخر من العالم، هناك من يصر على أن يغرقنا في الأدبيات ويجرب الإستراتيجية القديمة: ما هو الفرق بين الجوع والمجاعة؟ وما هو سوء التغذية المزمن؟ وكأن التعريفات أهم من الواقع الذي يشاهده الجميع كما لم يحدث في أي حرب أخرى. وكي يكتمل السيناريو تتبنى وسائل الإعلام العالمية هذا النهج حرصا على “المنهجية” و”تحديد المصطلحات” و”الدقة المهنية المطلوبة جدا” حين يتعلق الأمر بالفلسطينيين.
منذ بداية حرب الإبادة الجماعية تعاملت مؤسسات إعلامية كبرى مع الصحفيين في غزة ليس بصفتهم شركاء مهنيّين، بل كـ “متعهدي خدمات” يُطلب منهم إنجاز مهامَّ مهما كانت قساوة الظروف. وقد تجاهلت هذه المؤسسات حقيقة أن هؤلاء الصحفيين يعملون في أخطر بيئة صحفية على الإطلاق كما تؤكد تقارير دولية مستقلة. ووفق شهادات موثوقة من زملاء من الميدان، فإن ما يطلب منهم في العادة هو “الخبر العاجل”، “اللقطة المؤثرة” ونادرا ما يُسألونَ: هل أنت بخير؟ كيف تعمل؟ هل لديك ما يكفي لتستمر؟
هل يمكن لصحفي جائع يبحث عن كيس دقيق، أو فقد عائلته بالكامل أن يتمثل دوره في توثيق جرائم الاحتلال وإحداث توازن في التغطية الصحفية المختلة، والبحث عن تأثير ولو ضئيل لوقف حرب الإبادة الجماعية؟ كيف يمكن نقل معاناة الناس، إذا كان من يفترض أن يحكيها لا يجد قوت يومه؟
لا يبدو أن المنظمات الدولية تمارس الحد الأدنى من الضغط، لا على الاحتلال لضمان حماية الصحفيين/ الشهود ولا حتى على المؤسسات الإعلامية التي تحرم الصحفيين الفلسطينيين من أبسط حقوقهم المكفولة قانونا.
هكذا، يعيد الصحفي في غزة يعيد تعريف الصحافة لتصبح بحثا عن الحقيقة وعن كيس دقيق.