أمام مشهدية حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، تقف وسائل الإعلام العربية أمام مفترق طرق لِما يُفترض أن تقدّمه للمتابع، في ظل مقتلةٍ ليس يشهدها تاريخُ القضية الفلسطينية فحسب، بل تاريخُ المنطقة برمتها.
أسئلة يومية تدور في أذهان صنّاع الأخبار عن الجديد الذي يمكن طرحه في سياق توثيق الرواية والوقائع المتعلقة بالقضية الفلسطينية، من منطلق الخروج من الروتين التقليدي، ومن منطلق أن الزمن تغيّر، وكذلك التعامل مع عقلية جديدة للجمهور وأدواته لتلقي المعلومات والأخبار.
اعتمد الإعلام العربي في تغطيته هذه الحرب على ما تنقله كاميرات المراسلين والناشطين. وساهم هذا كثيراً في نقل الصورة إلى الرأي العام العالمي، وما نتج عنه من حراك ضاغط على الاحتلال وداعميه، لكن السؤال الأهم: ما المطلوب؟
في العادة، تنتقل المعالجة الإعلامية للتطوّرات من التعاطي الخبري مع الحدث، واستعراض جوانبه وخلفياته، وصولاً إلى مناقشة تداعياته وتأثيراته، وهذا ما يفتح النقاش بشأن كيفية تعامل الإعلام العربي مع حرب غزّة باعتبارها قصةَ أرض وإنسان ومقاومة، تستحق التوثيق إرثاً إنسانيّاً.
أصبح المشهد مملاً، سواء في ما يتعلق بالمحاور المطروقة، أو في الوقت الذي تستهلكه
ما إن تنتهي بعض وسائل الإعلام العربية من التعاطي مع الحدث الخبري المتعلق بالحرب، حتى ندخل في دوائر لا تنتهي من التحليل السياسي مع متحدّثين عديدين لا يضيفون إلى المشاهد أي جديد.
نشاهد يومياً نوافذ حوارية مع محللين ومختصين يتناولون جوانب الحرب المختلفة وتطوراتها. ومع الوقت، أصبح المشهد مملاً، سواء في ما يتعلق بالمحاور المطروقة، أو في الوقت الذي تستهلكه، وصولاً إلى الابتعاد أحياناً عن جوهر القضية والملفات الملامسة للحياة اليومية للمواطن الفلسطيني في غزّة.
… يحتاج المشاهد العربي من يقدّم له شرحاً وتوضيحاً لما يجري، لكن هل هذا ما يحصل في وسائل الإعلام العربية؟ هل يقدم المتحدثون تفسيرات وشروحات لحقيقة ما يحدث، وهل أجريت دراساتٌ علميةٌ تناولت الفترة التي يستطيع المشاهد تحملها لمتابعة الجدل والنقاش والحوار بشأن حدثٍ واضح وجلي يتطلب مقاربة جديدة في صياغة الخبر والمعلومة؟
من المفهوم أن ثمّة تحدّياً كبيراً لدى العاملين في غرف الأخبار يتعلق بالتعامل مع البث المباشر على مدار الساعة والقدرة على توفير مادة كافية لتغطية هذه المساحة. ولكن من غير المفهوم أن تملأ هذه المساحات بحشو الكلام والتحليل الذي لا يقدم أي قيمة أو معلومة تساهم في توثيق القصة الإنسانية بجوانبها المختلفة.
يمكن تجاوز هذا التحدّي بالتفكير بعقلية جديدة تنسجم مع توجهات الجمهور ونهمِه لمعرفة تفاصيل القصص والاقتراب أكثر من رواتها، كأن تخصص مساحات من البث لهؤلاء ليكونوا انعكاساً حقيقياً لصورة الواقع. وبالمناسبة، ليست الصحف والمواقع الإلكترونية أفضل حالاً، إذ تملأ صفحاتها بتقارير موسعة تعتمد على خبر ما، لتتحوّل المادة الإعلامية إلى “يقول فلان”، و”يرى فلان”، في استعراض لآراء ومواقف غالباً لا تعبر إلا عن وجهات نظر!
مكمن القصة في حرب غزّة هو الصورة التي تعبر عن ذاتها، وهذا تحدٍّ يفرض على وسائل الإعلام العربية استثمارها بالشكل الصحيح
لا شك أن هناك خطوات جريئة حققتها وسائل إعلام عربية، تمثلت في تحقيق خبطات لافتة، وفي الإصرار على الانحياز إلى قصة الإنسان كما هي، من دون انسياق إلى ما يرغب المشاهد ويتمنّى، لكن هذه بداية المشوار التي ربما تتطلب جرأة أكثر في تجنب التابوهات التقليدية التي درجت عليها وسائل إعلام كبرى سنوات. وغالباً ما تلجأ وسائل الإعلام العربية إلى ما ينتجه الإعلام الغربي من تحقيقات استقصائية عميقة للبناء عليها في تغطياته، وهو ما يطرح السؤال القديم الجديد: ما موقع الإعلام العربي من التحقيقات الاستقصائية التي تغوص في عمق القصة للإتيان بالجديد القادر على إحداث الجدل السياسي والتغيير المنشود في مسار الأحداث؟
يلحظ المتابع للإعلام الغربي ومؤسساته في نقلها حرب غزّة أنها رغم تحيز غالبيتها للرواية الإسرائيلية تلجأ إلى متابعة ما يجري بنقل الأخبار ودعمها بالمواقف والتصريحات، من دون كثيرِ كلام وتحليل، قبل أن تقدّم تحقيقاً أو سبقاً تكشف فيه جديداً أو خفايا غير معلومة.
مكمن القصة في حرب غزّة هو الصورة التي تعبر عن ذاتها، وهذا تحدٍّ يفرض على وسائل الإعلام العربية استثمارها بالشكل الصحيح، بدلاً من تحويلها إلى قوالب جامدة تقتل الروح فيها بالكلام. ما يحتاجه المشاهد والضحايا في غزّة من الإعلام العربي على حد سواء رواية قصص الإنسان بالصورة والأرقام والحقائق، وتوثيق جرائم الحرب، لتكون أدلة ماثلة للأجيال القادمة، فالكلام يمحوه الكلام، أما الصورة فتظل حاضرة.



