في واحدة من أكبر الأزمات التحريرية التي تهزّ هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” منذ عقود، أعلن المدير العام تيم ديفي والرئيسة التنفيذية لقسم الأخبار ديبورا ترنيس استقالتهما المتزامنة، بعد تصاعد الاتهامات ضد المؤسسة بالتحيّز في تغطية ملفات دولية حسّاسة، أبرزها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وطريقة تحرير مشاهد من خطاب للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عام 2021.
وقال ديفي في بيان استقالته، بعد خمس سنوات في المنصب، إن القرار “شخصي بالكامل”، لكنه أقرّ بوقوع “أخطاء يجب أن يتحمّل مسؤوليتها الكاملة”. وأضاف: “بي بي سي تقدّم أداءً جيدًا إجمالاً، لكن لا يمكن إنكار أن بعض الأمور لم تُدار كما يجب، والمسؤولية تقع عليّ في النهاية.”
في المقابل، اعترفت ترنيس بأن “الجدل بشأن خطاب ترامب وصل إلى مرحلة تسبّب ضرراً حقيقياً للمؤسسة التي أحبّها”، مؤكدةً أن “المسؤولية النهائية تقع على عاتقها بصفتها الرئيس التنفيذي للأخبار والشؤون الجارية”.
“أخطاء جسيمة”
تأتي الاستقالتان بعد تسريب وثيقة داخلية وصفها الإعلام البريطاني بـ”المدمّرة”، أعدّها المستشار السابق لمجلس معايير التحرير في الهيئة، مايكل بريسكت، ووجّه فيها اتهامات خطيرة إلى أقسام الأخبار بـ”ارتكاب أخطاء تهدّد نزاهة المؤسسة”.
وأشارت الوثيقة إلى أن برنامج “بانوراما” الشهير حرّر مقاطع من خطاب ترامب يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، بطريقة أوحت بأنه يشجع على أعمال الشغب التي شهدها مبنى الكونغرس الأميركي، في حين أن التسجيل الكامل لم يتضمّن تلك الدعوة بشكل مباشر.
كما كشفت الوثيقة عن تزايد الشكاوى الداخلية من طريقة تغطية “بي بي سي” للحرب الإسرائيلية على غزة، وسط شهادات من 13 موظفًا تحدثوا دون الكشف عن هوياتهم، قالوا إن الأخبار المنشورة على الموقع الإلكتروني “تخضع لتعديلات تميل لصالح الرواية الإسرائيلية وتهمّش الرواية الفلسطينية”.
دعوى قضائية
وتعمّقت الأزمة حين رفع رافي بيرغ، رئيس قسم الشرق الأوسط في موقع الهيئة، دعوى قضائية ضد الصحفي البريطاني أوين جونز بتهمة التشهير، على خلفية مقال نشره موقع Drop Site بعنوان “الحرب الأهلية داخل بي بي سي بشأن غزة”.
اتهم المقال بيرغ بـ”إعادة صياغة العناوين والنصوص لتخدم الرواية الإسرائيلية”، مشيرًا إلى أنه “يلعب دورًا محوريًا في ترسيخ ثقافة دعائية داخل المؤسسة”، وأنه “يتحكم في اختيار الصور والنصوص بما يقلل مساحة الرواية الفلسطينية”.
وبحسب وثائق الدعوى، فإن بيرغ سبق أن تعاون عام 2020 مع ضابط موساد سابق، داني ليمور، في تأليف كتاب بعنوان “جواسيس البحر الأحمر”، امتدح فيه جهاز الموساد ووصفه بأنه “أعظم جهاز استخبارات في العالم”، وهو ما أعاد فتح النقاش حول تضارب المصالح داخل غرف الأخبار.
تراجع الثقة الجماهيرية
في يوليو الماضي، أقرّت لجنة مراجعة داخلية في الهيئة بأن أحد أفلامها الوثائقية عن غزة خالف “معايير الدقة التحريرية”، بعدما تبين أن الراوي — الذي لم يُكشف عن هويته — هو ابن مسؤول في حكومة حماس.
وقالت وكالة “رويترز” إن التحقيق أوصى بتشديد الرقابة التحريرية ومراجعة آليات التدقيق في الأفلام السياسية الحساسة.
كما كشفت صحيفة “ذا تايمز” أن إدارة “بي بي سي” وجّهت تحذيرات لموظفيها بعدم الدخول في جدالات مع عائلاتهم وأصدقائهم حول تغطية الحرب على غزة، بعد تزايد الشعور داخل المؤسسة بأن سمعتها تتضرر بشكل غير مسبوق.
في المقابل، أكدت ترنيس أن الاتهامات بوجود “تحيّز مؤسسي لصالح إسرائيل” هي “خاطئة ومجحفة”، مشددة على أن “الهيئة لا تزال تلتزم بأعلى معايير الحياد”.
يقول محللون بريطانيون إن استقالة ديفي وترنيس في وقتٍ واحد تعكس عمق الأزمة التي تضرب “بي بي سي”، ليس فقط على مستوى الثقة التحريرية، بل في بنية القرار الصحفي داخل المؤسسة.
ويحذّر آخرون من أن هذه الهزة قد تعيد فتح النقاش داخل بريطانيا حول مدى استقلالية “بي بي سي” عن النفوذ السياسي، لا سيما في تغطية النزاعات الدولية مثل الحرب في غزة، التي شكّلت اختبارًا قاسيًا لمفهوم “الحياد البريطاني” التقليدي.
وفي انتظار ما ستسفر عنه التحقيقات القضائية والإدارية، تبدو “بي بي سي” أمام أزمة هوية مهنية غير مسبوقة — مؤسسة كانت ترفع شعار “الصدق أولاً”، باتت اليوم متهمة بـ”تشكيل الرواية بدل نقلها”.
ويذكر ان الحرب الإسرائيلية على غزة كانت الشرارة التي فجّرت العاصفة داخل “بي بي سي”، إذ تحوّلت تغطيتها الميدانية والسياسية إلى ساحة اختبار لمفهوم “الحياد” الذي طالما تباهت به المؤسسة.
فبينما اتُّهمت الهيئة مرارًا بتبنّي الرواية الإسرائيلية وتجاهل حجم المأساة الإنسانية في القطاع، بدأت الخلافات الداخلية تتسع لتشمل المراسلين والمحررين والمنتجين، وصولًا إلى قيادة الأخبار نفسها.
ووفق مصادر بريطانية، فإن ملف تغطية غزة شكّل أحد المحاور الرئيسية في سلسلة اجتماعات مغلقة سبقت استقالة ديفي وترنيس، بعدما حذّر بعض أعضاء مجلس الإدارة من تآكل الثقة الجماهيرية واتهام “بي بي سي” بفقدان بوصلتها الأخلاقية في تغطية الإبادة الجماعية التي تعرّض لها الفلسطينيون.
وبذلك، لم تكن استقالة القيادتين حدثًا إداريًا فحسب، بل انعكاسًا مباشرًا لأزمة أعمق تمسّ جوهر المهنية في أعرق مؤسسة إعلامية بريطانية، تقف اليوم أمام سؤال وجودي: هل يمكن للحياد أن يصمد أمام مأساة بهذا الحجم؟



