غير مصنف

نقلوا مشاهد حيّة هزّت الضمير العالمي

صحفيو الميدان .. مخاطر ومتاعب متلاحقة ورسائل تحدي لكل الظروف
برهوم: التاريخ يسجل ونحن أمام مسؤولية إنسانية حتى وقف الحرب
رُبا العجرمي: المرأة أهم مصادر الأمان لأطفالها وغيابها لأجل التغطية أم قاسٍ عليها
المصور “الأخرس” عن مقابلته لمصاب تحت الأنقاض: “شيء لم أعشه طيلة حياتي المهنية”

غزة/ يحيى اليعقوبي:
منذ البداية، أدرك الصحفيون الفلسطينيون أن المخاطر تلاحقهم وأنهم في قلب أهداف الاحتلال، وأن قوانين حقوق الإنسان التي كفلت حماية الصحفيين لم تكن إلا حبرا على ورق، ووقفت عاجزة أمام جرائم متتالية طالبت 211 صحفيًا ومئات المصابين، وأن الخوذة والدرع الصحفي أصبحت علامة للاستهداف لا الحماية، لكنهم تحملوا مخاطر كبيرة وتنقلوا بين خيام إعلامية عاشوا فيها بعيدا عن عائلاتهم لأجل نقل التغطية.
تواجد الصحفيون في الميدان على مدار الساعة وبثوا أخبارا لا تتوقف عن إذاعة المجازر، فكانوا صوتًا للمكلومين والمعذبين، نقلوا مشاهد حيّة للعالم بالصوت والصورة والكلمة، بين ثلاجات الموتى، أو فوق ركام المنازل التي سمع فيها العالم شهقات الشهداء وهم عالقون تحت الركام في لحظاتهم الأخيرة، نقلوا معاناة النازحين والأهالي في نقل المياه أو توفير الطعام أو الوقوف بطوابير لاستلام ربطة خبز.
تفرض حياة النزوح نفسها أيضًا على الصحفيين الفلسطينيين، يتنقلون في خيامهم بين محافظات القطاع، ويعيشونٍ بذات ظروف المعاناة التي تطبق على أهالي القطاع، فمع اندلاع الحرب واستهداف المقار الصحفية، أصبحت المخيمات الإعلامية التي تقام بجانب أو داخل المستشفيات لتوفر الكهرباء والانترنت وسيلة التواصل مع العالم لنقل الصورة والصوت والكلمة، ومن داخل تلك الخيام بُثت لقطات ومشاهد هزت الضمير العالمي.
تنقل الصحفي سامي برهوم والذي يعمل مراسلا تلفزيونيًا، منذ بدية الحرب بين خيام صحفية بمستشفى الشفاء، ثم بجانب مستشفى ناصر بخان يونس وانتقالا لمخيم بجوار المستشفى الكويتي برفح، ثم عاد لغزة، وواجه خلال عمله مخاطر كبيرة لم يكن بعيدًا فيها عن الاستهداف المباشر من جيش الاحتلال.
جرح كبير بالذاكرة
يحفر إبريل/ نيسان ذكرى أليمة في ذاكرة برهوم تركت جرحًا دائمًا في قلبه لا ينسى تفاصيلها، ترحل ذاكرته لتلك اللحظات الدامية: “كنت أقوم بتغطية استهداف بمخيم النصيرات وسط القطاع، وكان يرافقني الزميل المصور سامي شحادة، ويومها تعرضنا للقصف المباشر من طائرة إسرائيلية، أصيب سامي وكان ينزف وقمت بسحبه ونقله للمشفى ولاحقا تعرضت قدمه للبتر”.
عن مخاطر أخرى، تلملم ذاكرته في حديثه لصحيفة “فلسطين” مشاهد متناثرة على روزنامة أيام الحرب قائلا: “في إحدى المرات تعرضت سيارة كنت بداخلها أثناء التغطية للمحاصرة من قوات جيش الاحتلال وإطلاق كثافة نارية عالية، وفي مرة أخرى جرى استهدافنا عند بوابة مجمع ناصر، وتكرر نفس الحدث بمستشفى الشفاء، والحدث الخامس كان باستهداف قريب جدا منا بمنطقة الفالوجا بجباليا وكذلك استشهد الزميل مصطفى ثريا الذي جمعتني معه مهام عمل ميدانية”.
“المخاطر التي تلاحقنا كبيرة، فلا منطقة آمنة” أدرك برهوم كذلك أن الثمن الذي يدفعه الصحفيون ليس فقط من ما يبذلونه من تعب وبعد عن الأهل، بل من دمائهم، فالاحتلال لا يعمل على تحييد الصحفيين وإنما قتلهم.
على الصعيد العائلي، لم يرَ برهوم عائلته التي سافرت إلا تركيا نتيجة إغلاق المعابر واستمرار الحرب، يتمنى أن يحتضن أطفاله ويلتقي بهم، بينما يجلس بين أخبار وميدان عمل لم يعشه أي صحفي في العالم، أجبرته الظروف على رؤية أجساد ممزقة لأشلاء، أجنّة شهداء، بيوت ومربعات سكنية تتهاوى على من فيها.
بعيدًا عن العمل الصحفي، نال الصحفي برهوم من الألم ما نال شعبه، فبعد انسحاب جيش الاحتلال من رفح ذهب لمنزله ليقف أمام ركامه وحطام سيارته الشخصية وهو ذات المشهد الذي وقفه أثناء تدمير مكتب العمل، ورغم ذلك يقف أمام مسؤولية مهنية وإنسانية، يقول عنها بنبرة إصرار ترافق صوته: “نعرف أنه لا أحد في العالم يصمد كما صمد الصحفي في بيئة عمل استثنائية، دون أي ضمانات لحركته وقدرنا أننا أبناء البلد، وأننا مؤتمنون على نقل الإبادة والتاريخ يسجل ونحن أمام مسؤولية حتى وقف الحرب”.
كواليس خلف العدسات
خلف المشهد الحيّة للمجازر، كواليس لم يرهَ العالم وثقها مصورون صحفيون من ميادين عمل، في كثير من الحالات بدلا من أن يعودوا بالصور عادوا في أكفانٍ، وبدلا من أن ينقلوا القصة أصبحوا هم القصة التي رووها بدمائهم.
لحظة ارتكاب الاحتلال مجزرة مروّعة باستهداف مربع سكني بحي الشجاعية شرق مدينة غزة، لعائلات أبو عمشة وأبو الكاس وبهلول ورجب، كان قاسيًا على قلب المصور الصحفي محمد الأخرس أن تسجل عدسة كاميرته المجزرة، بينما يشاهد عن كثب المصابين أمامه تحت الأنقاض وهو عاجز عن تقديم المساعدة لهم بالرغم من وجود طواقم الدفاع المدني الذين وقفوا بكامل عجزهم عن إزالة الركام وانتشال جميع المفقودين من تحت الأنقاض.
غادر الأخرس الذي يعمل مصورا للتلفزيون الصيني الحكومي CGTN وشركة ميديا 24 المكان وترك خلفه مصابين عالقين تحت الأنقاض لم يتوقفوا عن إطلاق نداءات استغاثة من أسفل طبقات أسقف المنازل التي تحول دون إخراجهم، يحكي بكل ما رافقه من وجع لصحيفة “فلسطين”: “أجريت مقابلة مع أحد المصابين تحت الركام، المشهد مؤلم، أعمل في الصحافة منذ 19 سنة وأول مرة أجري مقابلة مع مصاب عالق تحت الأنقاض، غادرت وأنا حزين، وذهبت للمنزل بوصع سيء، تركت أرواحا نصفهم سمعت أصواتهم أثناء الاستغاثة ثم سكتت الأصوات كعلامة على الاستشهاد وأصبحوا شهداء”.
من المخاطر التي واجهها الأخرس خلال عمله، استهداف المكان أثناء التوجه للمكان للتغطية بهدف طمس الحقيقة، كان شاهدا مع بداية الحرب على قصف الاحتلال للمستشفى المعمداني ووقعت حينها مجزرة مؤلمة، شاهد أشلاء الشهداء متناثرة في ساحة المشفى.
عن تجربة طويلة خلال الحرب، يحكي: “الحرب كانت مؤلمة علينا كصحفيين تركنا منازلنا ومكاتبنا، وتوجهنا للميدان لتغطية الأحداث ونقل الصورة للعالم. غطينا الأحداث بتفاصيلها وعشنا في خيمة وأصبح حالنا كحال الناس، تنقلنا بين المستشفيات ونزحنا لجنوب القطاع، عايشنا أصعب الظروف وتعرضنا للاستهداف المباشر”.
ترك الأخرس بيته وزوجته وأبنائه من أجل الاستمرار في نقل رسالته الإعلامية، وهذه إحدى الصعوبات التي واجهها عموم الصحفيين في الموازنة بين تلبية احتياجات الأسرة ومهام العمل فكان منشغل البال على عائلته خاصة مع حدوث قصف قريب من مناطق سكنهم ونزوحهم، فضلا عن قصف أجهزة الاتصالات مما أثر على ضعف الانترنت، هو عجز آخر عندما كان يواجه صعوبة في إرسال ما وثقه للقناة مع حاجته لجودة انترنت مرتفعة وهو ما لم يكن متوفرا وقضى ساعات طويلة في المحاولة لإيصال المواد.
الصحفية عندما تكون أمًا
وواجهت الصحفيات ظروف عمل صعبة واستثنائية، فرضت تحديات كبيرة وتضاعفت مع ارتباطها بمسؤوليات عائلية ومتابعة دورها كأم مسؤولة عن احتياجات عائلية كثيرة خاصة مع استمرار الإبادة والحصار والنزوح والمأساة الإنسانية، وهذا ما عاشته مراسلة قناة TRT عربي ربا العجرمي.
يشاهد الناس الصورة النهائية التي تخرج فيها العجرمي خلال رسالتها الصحفية أمام الشاشة، لكن الكاميرا لم تنقل كواليس الخوف والرعب من الاستهدافات والحركة الخطرة من منطقة لأخرى، والجوع والعطش وأزمة التنقل.
“في الكواليس ممكن يكون طفلك معك على الهواء، طفلتي بعمر ثلاث سنوات وفي إحدى المرات مرضت وكانت بحاجة أني أكون بجانبها بالمنزل لكني أحضرتها معي للعمل لرعايتها خلال الدوام، وخلال رسالتي الإعلامية التي تستمر نحو عشر دقائق تركتها مع زميلتي، لكن مع الخوف بسبب الاستهداف وجدتها تلتصق بي طوال نقل الرسالة” لم تظهر طفلتها على الشاشة، لكن التقط صحفيون يتواجدون بالمكان المشهد ونشروه بشكل واسع، والتي عرضت الكواليس التي يتعرض لها الصحفيون، والمفارقة بين وجه أم ووجه آخر صحفية كما تروي لصحيفة “فلسطين”.
تتحدث العجرمي عن خصوصية المرأة الصحفية بواقع مليء بالخوف والرعب، فالمرأة تعد أحد أهم مصادر الأمان لعائلتها وأطفالها، وغيابها عن هذه المسؤولية لتغطية مسؤولية أكبر للقيام بمهمة نقل الأحداث أمر قاس عليها، تقول: “التجربة كانت صعبة ومريرة، مع عدم وجود خطوط حمراء، وما نعيشه من صراع أثناء الإخلاءات والانتقال لمناطق يصنفها الاحتلال على أنها آمنة ويقوم باستهدافها”.
كانت تغطية الحرب بالنسبة للعجرمي “قاسية”، وهي ليست تجربة تضاف لسجلها المهني أو رصيدها الإعلامي، بقدر قساوة التجربة على الصعيد الإنساني كشخص يتعرض لكل هذه الضغوط والمؤثرات وفي نفس الوقت تحمل رسالة وتصر على استكمالها، لكنها أضافت الكثير من مهارات العمل تحت الضغط في ظل واقع كالواقع الذي نتعرض له.
وبالرغم من حجم الاستهداف الكبير للصحفيين من قبل الاحتلال، تجزم العجرمي أنه لا يوجد صحفي تخلى عن هذه الرسالة بفعل الضغوط الممارسة من الاحتلال على الصحفيين أو عمليات الاستهداف وحملات التشويه المضادة ضدهم، مؤكدةً، “دائما هناك رسالة تحدي لكل الظروف، يحمل هذه الثوابت في عقله وقلبه ويحمل رسالة سامية في فضح جرائم الاحتلال.
وإضافة للمراسلة، تقدم العجرمي حلقة أسبوعية خاصة تتحدث عن ظروف الحرب وتبعاته، تتطلب منها الخروج بملابس لبقة باعتبار أنها تحل محل مذيعة، وهذه معاناة أخرى تواجهها، تشرح بكل مرارة “لا أحد يتخيل كم من البحث الذي استغرقه لإيجاد ملابس ملائمة للحلقة مع إغلاق المعابر ومنع إدخال الملابس، لأن المشاهد سينتقد مظهرك إن لم يكن لائقا مهما وصفت الصورة، فهو يعتبرك أنك بمعزل عن الواقع لإثبات مهنيتك”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى