يقال إن التحقيق الاستقصائي بمثابة بلاغ للنائب العام للتدقيق في القضية واستكمال التحقيق في تجاوزات وشبهات فساد وحوادث يقف خلفها أناس يعملون في الخفاء، إثر تمكن الصحفي الاستقصائي من سبر الأغوار وتتبع قضايا لم تكن تخرج عن سريتها لولا جهوده الميدانية، وبحثه الصعب في الملفات والوثائق التي أراد لها البعض أن تبقى طي الكتمان.
في السنوات الأخيرة نُشرت العديد من التحقيقات الاستقصائية في الوطن العربي، رغم هامش الحرية الضيق في معظم تلك البلاد التي تحاول أنظمتها تحييد الصحفيين عن القضايا التي يمكن أن تمسها أو تؤثر عليها، أو تكشف جزءا من تقصيرها، سواء أكانت ذات بعد اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي وخدماتي.
ورغم قصر عمر العمل الاستقصائي المبني على فرضيات وأسس علمية، وقلة عدد المتبنين للمبادرات الداعمة للصحافة الاستقصائية، فإنها استطاعت أن تشق طريقها الصعب، ونجحت في تجاوز مقص الرقيب، وتمكنت من تجييش الرأي العام في الضغط على صناع القرار، وإحداث تغيير في الملفات المطروحة.
وتعد التحقيقات الاستقصائية أصعب فنون العمل الصحفي وربما أخطرها، نظرا لكشفها للخبايا بشكل أساسي، وتطرّقها لملفات الفساد بكافة أشكالها، سواء استغلال المناصب، أو الرشاوى والمحسوبية، أو نهب المال العام. ومع ذلك، فرضت نفسها لتكون لاعبا أساسيا في دائرة الرقابة على التجاوزات التي تستهدف المجتمعات.
وتمكن عدد من الصحفيين الذين يقاتلون لإنجاز تحقيقات استقصائية تقترب من مناطق حساسة يخشاها البعض، من تجاوز التضييق الذي تحاول الحكومات فرضه عليهم مستغلة غياب القوانين التي تمنح الحرية للعمل الصحفي.
ولفهم دور الصحافة الاستقصائية، سنسرد تجربة خطيرة خاضها كاتب هذا المقال في العام 2017، عندما سلط الضوء على منطقة ما يتخذ منها أفراد عائلة وكرًا لتجارة المخدرات والسلاح وحتى ابتزاز النساء، في ظل تراخي الجهات الأمنية -حينها- للتعامل مع ذلك الملف.
تفاصيل التحقيق الذي امتد العمل فيه قرابة ستة أشهر، تكشف كل العراقيل والتحديات والمخاطر وحتى دور الصحافة الاستقصائية الرقابي على الواقع ومحاولتها تغييره في سبيل بسط القانون ومحاربة الفساد، وكيفية تعاطي المؤسسة الرسمية معها.
في البداية، كان هناك تردد في اتخاذ قرار الخوض في التحقيق، وذلك نظرا للتخوف من الصدام مع المتهمين بالفساد الذين يشكلون “عصابة” داخل المنطقة التي يقطنونها. لكن بعد جلسات من النقاش داخل إدارة التحرير، تمت الموافقة على تنفيذه بحذر، على أن يتم تقييم العمل لحظة بلحظة، واتخاذ القرار المناسب بناء على التطورات الميدانية.
الخوف كان يسيطر على المصادر المحيطة في ذلك المكان، وظهر ذلك جليا في رفض معظمهم كشف أسمائهم، بينما كان هناك ما يشبه “التهرب” من الجهات المسؤولة للخوض في تفاصيل التحقيق.
اللحظة الحاسمة كانت مع قرار إجراء مقابلة مع رأس الهرم داخل “العصابة”، ومواجهته بجميع الأدلة والتهم التي استقصاها معدّ التحقيق خلال بحثه الميداني، مما تطلب وضع خطة شاملة لكيفية الدخول إلى المنطقة واستدراج كبيرهم خارج نفوذه، وتأمين متطلبات التصوير السري، والتنسيق مع أشخاص ليكونوا جاهزين للتدخل إذا ما تطلّب الأمر ذلك.
كانت سلامة الصحفي الجزء الأهم أثناء استكمال التحقيق، حتى إنه في بعض المحطات دار نقاش حول إمكانية وقف العمل. لكن الجهود الكثيرة التي بذلت والمخاطرة الكبيرة إنما كانت في سبيل الكشف عن المستور، والإجابة عن أسئلة عالقة: لماذا لم يتم تفكيك الوكر؟ ومن المستفيد من وجوده؟ وما المقابل المدفوع للتستر عليه؟
انتشر التحقيق مصحوبا بمادة مصورة توضح حجم التجاوزات في المكان، رغم أن التصوير في تلك المنطقة يعتبر من المحظورات، وتطلّب جهودا وخططا بديلة للتصوير بالهواتف المحمولة لسهولة إخفائها، إلا أن الفيديوهات زادت من انتشار التحقيق الاستقصائي، مما وضع الشرطة أمام أسئلة حرجة لتأخرها في التعامل مع تلك القضية.
تزايدت ردود الفعل بين المواطنين بعدما انتشر التحقيق بسرعة عبر منصات التواصل الاجتماعي، مما دفع الجهات الأمنية إلى استدعاء الصحفي للحصول على المعلومات التي بحوزته، واتخاذ قرار بالتحقيق في الأمر ومعاقبة المقصرين.
الشاهد هنا أن التحقيقات الاستقصائية التي يقوم بها الصحفيون، بإمكانها لعب دور الرقابة على الجهات الرسمية، وتدفعها للتحرك أمام ضغط الرأي العام الذي تشكله وسائل الاتصال الجماهيري.
ذات الهدف تحقق عندما رصد زميل صحفي إقدام عدد من الصيادين على اصطياد الأسماك من منطقة ملوثة يُحظَر فيها الصيد بناء على قرار صادر من الوزارة المختصة، لكنهم تجاوزوا كل التعليمات المعمول بها بتواطؤ من جهاز الشرطة المنوط به حماية الشواطئ، والموكل على عاتقها تنفيذ قرار المنع أساسا.
التحقيق الذي لاقى انتشارا واسعا، أجبر الجهات الرقابية ومجلس النواب على تشكيل لجنة تحقيق خاصة، أسفرت عن إعفاء مدير جهاز الشرطة المختصة من مهامه.
الأمثلة السابقة تدلل على قوة العمل الاستقصائي الذي يتقنه عدد محدود من الصحفيين نظرا للمهارات الخاصة التي يجب أن يتمتع بها الصحفي، والتي تتطلب تمرّسه في المهنة، وصبره أثناء ملاحقته للمعلومات والمصادر، وحماية نفسه قانونيا، وإحاطة عمله بالكتمان حتى يرى النور.
ويُظهر التفاعل الذي يصاحب التحقيقات الاستقصائية مدى الدور الذي تمارسه في الرقابة على العمل الحكومي ومؤسسات المجتمع المدني، وتدفعهم لتصويب أوضاعهم وتدارك أي تجاوز، خشية انكشاف أمرهم أمام السلطة الرابعة.
رغم ما حققته الصحافة الاستقصائية، فإنها تُجابَه من الأنظمة والأجهزة الحكومية التي تحركت ضدها بقوة لوأد أي محاولة استقصاء في مهدها قبل أن ترى النور، وذلك من خلال عدة مسارات:
الأول- رفض الجهات ذات العلاقة الحديثَ في الأمر، مما يؤثر سلبا على سير عمل التحقيق ويُضعف مصادره، مستغلين غياب الأنظمة المتعلقة بحق الحصول على المعلومات.
الثاني- التواصل مع الجهة المنتجة للتحقيق الاستقصائي، وإقناعها بالعدول عن استكماله تحت ذريعة “يمكن أن نحل الأمر داخليا بعيدا عن الإعلام”، ويمكن أن يأتي بنتائج عكسية على فئات أخرى من الجمهور.
الثالث- التواصل الشخصي مع الصحفي، ومحاولة إقناعه بأن الخلل قد تم تجاوزه، وأنهم سيتخذون قرارات من شأنها تعديل المسار.
الرابع- التهديد باللجوء إلى القضاء، مستغلين أي ثغرة يمكن أن يتسللوا من خلالها إلى الصحفي وتشويه عمله وحتى تاريخه المهني.
الخامس- ويتعلق بالمؤسسات التجارية الكبرى التي تخرج ورقة الابتزاز الإعلاني، منتهجة سياسة أموال الإعلانات مقابل الصمت.
صدام لا بد منه
في إحدى جلسات النقاش حول عمل الصحافة الاستقصائية، برزت عقبات تقف أمام المستقصين لعلها تنعكس -جميعها أو جزء منها- على الدول العربية.
أولى تلك العقبات، غياب القناعة لدى الكثير من المؤسسات الإعلامية بتبني العمل الاستقصائي لاعتقادها بأنها تهدر المزيد من الوقت والجهد، وربما لا تصل في النهاية إلى نتائج الفرضيات المراد إثباتها.
العقبة الثانية تكمن في أن التحقيقات ستضع الوسائل الإعلامية في صدام مع المؤسسة الرسمية وحتى المجتمعية التي سيطالها العمل، وبالتالي هي في غنى عن خوض معارك وخلافات يمكن أن تطول، وتُخسرها علاقات مجتمعية.
الثالثة تتعلق بالوضع المالي للمؤسسات والذي لا يمكّنها من الإنفاق على التحقيقات التي تتطلب ميزانيات للعمل، وكذلك تخصيص متسع من الوقت للصحفي لإنجاز المهام الموكلة إليه، في الوقت الذي تعاني فيه معظم المؤسسات من نقص الكوادر البشرية والمالية.
العقبة الرابعة تتمثل في غياب المؤسسات الداعمة للصحافة الاستقصائية، ومحدودية برامج تمويلها، وتدريب صحفيين على ذلك الفن، باعتبار أن هذه البرامج تحتاج تمويلا خاصا، إذا ما كان الهدف تطوير العمل وصولا إلى تحقيقات عابرة للدول والقارات.
أما الخامسة فتتعلق بالنتائج السلبية التي انعكست على الصحافة الاستقصائية عندما حاول “هواة” خوض غمارها بهدف تحقيق المزيد من الشهرة، والضجة عبر منصات التواصل الاجتماعي، دون الاعتماد على المعايير المهنية والأخلاقية أثناء إنجاز التحقيق، مما شكل ذريعة لبعض الجهات لمهاجمة الصحافة الاستقصائية واتهامها بأنها ذات أهداف “خبيثة” وتعمل لصالح أجندة خارجية.
ولعل المعضلة الأبرز كانت غياب القوانين الناظمة للعمل الصحفي، وحق الحصول على المعلومات، والتي يقابلها المزيد من القوانين التي تحد حريتهم كقانون الجرائم الإلكترونية.
في نهاية النقاش، خلص أساتذة الإعلام والصحفيون إلى أن الصحافة الاستقصائية تحتاج إلى المزيد من المهارة والتدريب الخاص للصحفيين كي تؤتي ثمارها، وقبل كل ذلك تحتاج إلى بيئة قانونية وسياسية وأمنية حاضنة ومشجعة للعمل الاستقصائي، بهدف المساعدة في تصويب الأوضاع وتجاوز الأخطاء.