د. أحمد حماد
أستاذ الإعلام بجامعة الأقصى
وأخيراً ترجل الفارس… مضى في صمت بعيداً عن الأضواء شأنه في ذلك شأن الكثيرين من العظماء… رحل أبو وائل “احمد العبد أبو السعيد”، احد فرسان جامعة الاقصى والأكثر بروزاً كونه استاذ الاعلام وعميد كلية الاعلام الأسبق والمحقق اللغوي، وصاحب المجموعة الاوسع في كتب وبحوث الاعلام الفلسطيني على مستوى جامعات الوطن والذي أشرف وناقش عشرات الرسائل العلمية وشارك في الكثير من ورش العمل والدورات التدريبية.
منذ ايام جاء نعيُه ولم أكن مستعداً لأي كمد، فقد تحدثت قبيل أن أفجع بوفاته هاتفيا مع ولده “ادم” للاطمئنان عليه فأخبرني ان حالته الصحية تزداد صعوبة الى ان تكسرت النّصال على النّصال ومضت سنة الله في خلقه…
يالله…ما أقسى الفراق، هل قدر لنا أن نفقد أعزتنا وزملائنا بهذه السرعة، فمنذ دخولك المستشفى مع شراسة الجائحة في ربوع بلدنا الحبيب، ونحن نبتهل الى المولى القدير سبحانه وتعالى أن يشفيك من هذا الطارئ اللعين، الا أن سهم القضاء يأبى الا أن ينفذ، فهذا سنة الله في الكون منذ أن خلق الله أدم عليه السلام وحتى تقوم الساعة، لكنه الم الفراق… ما أقسى البعد وما أثقله الفناء.
نحن نعلم جيداً أن لا شفاعة في الموت.. فهكذا اقتضت مشيئة الرحمن، وتلك هي سنة الله في الخلق، ففي الموت مواعظ وعبر، فيه تذكرة بالدار الاخرة، وليتنا نتعظ، لكن يبقى الم الفراق! كم هي جارحة لحظات الوداع، اما فقد الاحبة فيترك في النفس انكسارات لا تنسى، ولكنه الموت، الحقيقة الكبرى التي لا تقبل الجدل.
فقدان د. أحمد ابو السعيد الذي عرفناه منذ سنوات طويلة خسارة وطنية جديدة لما يتمتع من حس وطنى، بوفاته تخسر فلسطين شخصية اكاديمية وعلمية مميزة حيث تميز بأدبه الرفيع وعلمه الغزير فهو صاحب الارث الكبير من نشر الدراسات والأبحاث والكتب ونحن نخسر زميلا عالما وصديقا كبيرا مخلصا كونه احد أعمدة كلية الاعلام بالجامعة الذي لم نعرف عنه إلا الوفاء والتجرد والاعتدال. ولن أنسى ما حييت كلمته في حفل تكريمي من قبل عمادة التخطيط والتطوير في الجامعة قبل سنوات وخطابه البليغ الذي عبّر به عن التقدير لشخصي كإنسان أولا، وزميل وأكاديمي في كلية الاعلام حين كان عميدا لها.
رحلت عنا -أبا وائل- تاركاً لنا ذكراك الطيبة وحسن سيرتك ونقاء سريرتك فكنت محافظاً على صلاتك وباراً بوالديك حريصاً على زيارة المرضى وحاضراً مع الجميع في السراء والضراء، ولا ننسى عنك يا صديقي مواقفك الرجولية وفزعتك وشهامتك ومرؤتك وسلامة قلبك وسعة صدرك وما كنت يوماً إلا خير سند وعزوة للجميع نسر بإطلالتك علينا ومثالاً طيباً في طيب المعشر صادقاً للوعد ومن خيرة الزملاء ترسم لنا الأمل والفرحة برؤياك في أجمل لحظات وذكريات الصداقة.
لقد اعطيت كل ما لديك بلا حدود، ودون كلل أو ملل، ان مهنتك ورسالتك هي من أصعب المهن وأهم الرسالات، رسالة العلم والتربية، بكل ما تحمله في طياتها من المعاني، التي في صلبها بناء الانسان، وبناء الوطن وبناء المجتمع .
ما أقسي الوداع يا صديقي ابو وائل ..لم يكن أحمد ابو السعيد بالنسبة لي زميلا ولكنه كان اخا بكل معني الكلمة انسان بما تحمل الكلمة من المشاعر والاحاسيس استاذا لأجيال من طلبة وطالبات الاعلام تعلموا منه الكثير بلا بخل معطاء بلا حدود كان يحرص الا يغضب احدا، بابتسامته الرقيقة يستقبلك ويستضيفك بكرم وبفرحة يرحب بك وبأحضان يودعك.اليوم افقد صديقا هو الاقرب، تزاملنا من اول يوم عمل وعملنا سويا فى مراكز ومؤسسات واستمرت علاقتنا منذ قرابة ثلاثة عقود.
الإخلاص والرجولة ليست عملة نادرة في مجتمعنا وشبابه العاملون في كل المجالات، لكن لهذه النماذج واجب في رقابنا، أقله الوفاء والتقدير والاحترام. فربما قرأ الكثيرون في الصحف والمواقع الاخبارية خبر وفاة الاستاذ الدكتور ابو السعيد نتيجة اصابته ومعاناته من جائحة كرونا. ربما اعتبروه خبرا عاديا، لكن الحكاية تمتد إلى حياة شاب وعائلته وأهله، وقبل هذا فهو قدوة ونموذج يستحق أن نقدمه لشبابنا في وقت نشكو فيه من ممارسات سلبية لفئات من شبابنا ولا مبالاة وانشغال بما لا يفيد.
وحين نُعلّم أبناءنا وبناتنا في المدارس و المؤسسات التعليمية “التربية الوطنية”، ونحاول بناء الانتماء والإخلاص، فمثل هذه النماذج من الرجال هم عنوان هذه التربية. الانتماء ليس أغنية أو خطابا، انه منظومة متكاملة من العطاء والبذل لصالح مجتمع يئن تحت وطأة الاحتلال والانقسام فكل هذا منظومة متكاملة تجسد الإخلاص والانتماء والمواطنة السليمة.. رحلت عنا يا صديقي وكلمات الرثاء لا تكفي لمشاعر الحزن بداخلنا وما يشغلنا من ألم فراقك نعتصره بصدورنا فكان فقدك حقا سحابه سوداء.
أحمد ابو السعيد نموذج فلسطيني صادق يستحق – من الجميع- أن نذكره بكل خير، وأن نوفيه بعض حقه حيث قدم وساهم من ماله الخاص في عمل الخير ومساعدة الطلبة في تأمين الرسوم الدراسية، ونذكر معه كل اهل الجود والكرم، الذين عملوا وقدموا لأجل رفعة هذا البلد وكل موظف وعامل يمارس أخلاق الشهداء وسلوك الرجال وهو يرعى مصالح الناس في عمله ووظيفته سواء أكان في أدنى درجة وظيفية أو في أعلى مراتبها.
استمعت وقرأت الى ما كتب، وسافرت في حكاياته كأي فلسطيني ذاق مر التشرد والحرمان والتهجير، وتنقلت بين أماكنه في فلسطين والقاهرة ، طفولة ويفاعة وشبابا، قليل فرح وجبال أشجان.
رحمك الله .. ولا نجد ما نقوله سوى أننا فقدناك حقاً .. طلابك ومحبيك ذرفوا الدموع والجميع يبيكيك وتأئر برحيلك عنا ولكن ستظل ذكراك محفورة في القلوب والوجدان.
لتخليد ذكرى د.ابو السعيد كنموذج مثالى يحتذى به نقترح التالى:
أولا . عمل كتاب جامع أو موسوعة شاملة بكل أعماله وابحاثه ومقالاته العلمية المتناثرة في الدوريات العلمية المتخصصة وغير المتخصصة.
ثانيا . دعوة جامعة الاقصى ومؤسسات التعليم العالي ونقابة الصحفيين الفلسطينيين والمؤسسات الاعلامية الى تخصيص جائزة سنوية باسم الأستاذ الدكتور احمد العبد ابو السعيد .. على أن تكون هذه الجائزة متعددة الشعب لأفضل مقال منشور وأفضل رسالة علمية وأفضل مشروع تخرج .. الخ .
ندعو الله العلي القدير أن يتغمدك بواسع رحمته ورضوانه ويلهمنا وذويك وكل محبيك الصبر والسلوان ويجمعنا فيك بالفردوس الأعلى. «إنا لله وإنا اليه راجعون». إلى جنة الخلد مع الصديقين والشهداء، رحمك الله يا صديقي، فإن قدر المبتسمين ان يذهبوا سريعا.
فإننا كبشر أعطانا الله تعالى أن نختار أخلاقنا وسلوكنا، لهذا اختار أبو وائل أن يكون رجل علم ومعرفة معطاء وصاحب خلق وأن يقدم للشباب الفلسطيني نموذجا كريماً, على روحك السلام.