أقلام حرة

العزاء الفلسطيني في حاتم علي

كان لافتاً التفاعل الفلسطيني الكبير مع خبر رحيل المخرج السوري حاتم علي، والذي اشتهر بأعمال درامية عظيمة كان حظ فلسطين منها رائعته الدرامية المتقنة التي لا منافس لها “التغريبة الفلسطينية”..

منذ لحظة انتشار الخبر المفاجئ لرحيل حاتم علي شارك عشرات آلاف الفلسطينيين في تظاهرة الكترونية حاشدة يرثون الفنان الراحل ويدعون له بالرحمة ويعبرون عن الحزن للخسارة التي مثلها رحيله، وقد شارك في نعيه جمهور كبير لا يهتم عادةً بعالم الفن والفنانين، لكنه رأى في حاتم علي مثالاً خاصاً يستحق الرثاء.

ليس عادياً أن تحزن كل هذه الجماهير مع رحيل فنان، وهو تفاعل تميز بحالة إجماع على الثناء عليه والدعاء بالرحمة. حاتم علي لا ينتمي إلى عالم السياسة أو عالم الفكر الذي ينقسم الناس فيه عادةً ويتجادلون، لكنه ينتمي إلى عالم الجمال الذي يلامس وجدان الناس وأشواقهم، وقد نجح في الحفاظ على مكانته ملهماً للقلوب، فلم يتورط في مواقف تشوه جمال الفن ونقاءه ولم يستغل مكانته الفنية في بيع الولاء السياسي.

وجد الفلسطينيون، ومثلهم إخوانهم من الشعوب العربية، في حاتم علي الشيء المفقود الذي ضاع في عصر الدراما الفارغة التي لا تحمل رسالةً وموقفاً مبدئياً جاداً، ولا تخاطب في الجمهور سوى حاجته إلى التسلية والإثارة. لكن مثال حاتم علي لامس في قلوب الناس انتماءهم الجاد إلى قضايا الأمة وهويتها الجامعة، وقد سكب هذه المعاني الجادة في قوالب فنية آسرة تملك على المشاهد لبَّه حتى تدخله إلى عالَم الفنان الخاص، فيتماهى في داخله ويتشكل وعيه ووجدانه. ويرى أحداث المسلسل أكبر من كونها مشاهد تمثيليةً، بل يراها معانٍ متجسدةً ومثلاً حيةً قريبة الإدراك والملامسة.

سيكون علينا أن نبذل جهداً للعثور على أسرة فلسطينية لم تشاهد التغريبة الفلسطينية، ولم تحفر عميقاً في وجدان أفرادها، ولم تلامس أوجاعهم المدفونة فتستثير دموعهم. لقد رأى الفلسطينيون في التغريبة التفاصيل الدقيقة لحكاية الوجع والخذلان. رجعت التغريبة بنا في خط الزمن إلى الفصول الباكرة للمأساة من أيام الانتداب البريطاني، ورافقت العائلة الفلسطينية في الحقل والمدرسة، وفي القرية والمدينة، وسلطت الضوء على دقائق العلاقات الاجتماعية والإقطاع والطبقية، وقرَّبتنا من بدايات خروج الإنسان الفلسطيني من حالة الاستقرار الاجتماعي إلى اضطرار المواجهة السياسية مع تجلي معالم المؤامرة وصولاً إلى ثورة 1936 ضد الاحتلال البريطاني. ثم بلغت الأحداث ذروتها في المحطة الأشد مأساويةً، وهي الهجوم الاستعماري الصهيوني والمجازر واقتلاع الشعب من أرضه، ورحلة الخيمة والضياع ومرارة الانتظار وخيبات الأمل، ثم محطة جديدة لمأساة جديدة عام 1967 جعلت المسافة أبعد عن حلم العودة وكرَّست واقع انتصار إسرائيل وشتات الفلسطينيين.

ولأن “التغريبة الفلسطينية” تعالج قصةً لم يكتب فصلها الأخير بعد اختار الروائي والمخرج النهاية المفتوحة لها، ففي المشهد الأخير من المسلسل يهرع الشاب رشدي الذي يمثل الجيل الفلسطيني الجديد إلى المغارة ويستخرج السلاح المخبوء فيها وقد امتلأ عزماً بالتحدي والمواجهة، لتكون النهاية ميلاد قصة جديدة في رحلة طويلة من المواجهة بين المستعمر المحتل وبين الشعب الذي خسر كل شيء ولم يعد أمامه مفر من المواجهة.

تعد “التغريبة الفلسطينية” ركناً مهماً في نشر الرواية الفلسطينية وتشكيل وعي الأجيال الجديدة وتعريفها بالحقائق؛ صيانةً لهذا الوعي من الضمور والتشوه. وربما هي فريضة وطنية أن تشاهد كل أسرة فلسطينية مع أطفالها مسلسل التغريبة الفلسطينية لما يغرسه من معانٍ في نفوسهم، ويضمن بقاء وعيهم متصلاً مع الجذور.

عالمياً فإن مسلسل التغريبة الفلسطينية هو أبلغ رسول يبين للشعوب أصل المشكلة بلغة سلسة تهوي الأفئدة إليها، بخلاف الأبحاث الأكاديمية التي لا يصبر على قراءتها إلا أولو العزم. وعلينا ألا نفترض أن العالم يعرف قضيتنا لكنه اختار الانحياز إلى الظالم، هذا يصدق في النظام العالمي الرسمي، أما الشعوب فأكثرها مغيبة ولا تعلم شيئاً عن التهجير والنكبة والتطهير العرقي في فلسطين. ومسلسل بالإمكانات الفنية المتوفرة في التغريبة الفلسطينية يمثل مادةً بصريةً غنيةً للجمهور العالمي للتعريف بحقائق القضية، وتشكيل الوعي الصحيح وإبطال أكاذيب الدعاية الصهيونية.

وكم أرجو من الفلسطينيين المقتدرين في الخارج ومؤسساتهم أن يأخذوا هذه الفكرة بقدر كاف من الجدّ، وأن يخصصوا الأموال والجهود لترجمة التغريبة إلى اللغات الحية حول العالم، فمثل هذا المشروع لو تحقق فإنه سيملأ فراغاً كبيراً في تعريف الناس بحقوق الشعب الفلسطيني.

الأحداث والحقائق التي يعرضها مسلسل التغريبة الفلسطينية يمكن الوصول إليها على نحو أدقَّ في بطون الكتب والمراجع والأبحاث العلمية، لكن الإضافة العظيمة التي قدمها الروائي وليد سيف والمخرج حاتم علي هي صياغة هذه الأحداث والحقائق في صور فنية جاذبة ميسّرة الوصول إلى الإنسان العادي، وجعل ما يستدعي بحثاً وتنقيباً لا يفعله إلا الباحثون والدارسون معنىً قريباً من كل إنسان. فبينما تصل الحقائق العلمية إلى عقول الجادين، فإن العمل الفني يتسلل إلى قلب كل إنسان ويختلط بإحساسه ووجدانه، وهذا هو جوهر رسالة الفنان.

تمثلت ميزة المخرج حاتم علي في أنه قدم إلى الجمهور العربي إبداعاته الفنية العظيمة من داخل مدرسة الفن القائمة وبأدواتها، وفي هذا درس لمن يتبنون فكرة “الفن البديل”، إذ إن كلمة البديل إشكالية في ذاتها، ومجرد طرحها يمثل جدار صد ويثير الانقسام ويشعر المؤسسة القائمة بالتهديد، فضلاً عن أنه يحدث تشوهاً وانقساماً في ذائقة الجمهور.

حاتم علي مارس إبداعه وفق شروط المؤسسة الفنية القائمة وبأدواتها، وبالاستعانة بنفس الممثلين والممثلات وذات الشركات الإعلامية التي تنتج أعمال غيره، والفرق بين أعماله وأعمال غيره يُعرف بسمو الرسالة التي يتضمنها.

إن الإضافة التي نحتاجها في الفن لا تشترط هدم المؤسسة القائمة وإنشاء مؤسسة جديدة، بل يمكن أن تتحقق بالدفع باتجاه تقريب الدراما من قضايا الشعوب واهتماماتها وتضمينها قدراً أكبر من المعنى.

الفنان قريب من الناس، وهذا ما يفسر التفاعل الكبير مع وفاة المخرج حاتم علي من الناس، والفنان يحظى بفرصة ليست لغيره إذ إنه يتسلل إلى قلوب الناس وأحاسيسهم ويمكنه تشكيل مشاعرهم واهتماماتهم. المفكر أعمق من الفنان في تحقيق المعاني المجردة لكن دائرة انتشاره محدودة، بينما الفنان قد يمكنه تشكيل وعي جيل كامل لأنه يقدم المعاني في هيئة صور وحكايات، فإذا رزقنا بفنان ينتمي إلى قضايا أمته صادق غير قابل للشراء فقد أحبه الناس وجُعل له القبول في الأرض.

وإن من تمام الحزن أن “حاتم علي” الذي أخرج “التغريبة الفلسطينية” قد أصابته “التغريبة السوريَّة” فمات بعيداً عن وطنه، مختنقاً بالقهر قبل أن تتاح له فرصة أن يحكي للناس تغريبة شعبه..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى