قبل 20 عاما، انطلق موقع الجزيرة نت، ليكون الموقع الإخباري العربي الأول من نوعه، من حيث التخصص والسياسات وحجم الكادر والموازنة المعتمدة، مكملا الرسالة التي انطلقت بها قناة الجزيرة في نوفمبر/تشرين الثاني 1996، الرسالة التي سطعت أنوارها في آفاق الإعلام العربي المظلمة، الرسالة التي التقت نبضاتها مع شوق الشارع العربي، الذي طالما غاب صوته في ضجيج الاستبداد وطنين المغيبين عن الوعي.
عقدان من الزمان، عقدان من اللؤلؤ والمرجان يزينان صدر الموقع، ولا يخفيهما عن الناظرين كونهما وراء عقدين آخرين من المصائب والأحزان، يلفّان وجه الكوكب العربي، فالمشانق تأبى إلا أن تظل معلقة، والموتى ما زالوا يتقاطرون.
إن الواقع الشرس الذي نعيشه، يفسح المجال أمام موقع الجزيرة نت ليحافظ على ريادته في الصدارة، ويعزز مهنيته، وتمسكه بمبادئ العمل الإعلامي، ويزيد من احترامه لجمهوره، وليظل أمينا في توثيق واقعه. وهذا لا يتأتى إلا بمزيد من المثابرة والاجتهاد، ومزيد من التخطيط والتهديف، ومزيد من الالتزام والأصالة والاعتزاز، ومزيد من الإبداع والتألق.
واسطة العِقد وسياسات الاستبداد
تظل سياسات التحرير البوصلة، التي تقود المحتوى الإعلامي إلى مراتب الشرف الأسمى، أو إلى أسفل سافلين، ومنذ اليوم الأول وضعت شبكة الجزيرة نفسها بسياستها التحريرية المتقدمة في طريق صعب، وهي تعلم أنها ستسير فيه وحدها، ولن يجاريها فيه أحد، وظل موقع الجزيرة نت منذ انطلاقته، يسير معها في الطريق نفسه، على عكس ما هو شائع في المؤسسات الإعلامية العربية، التي تديرها الأجهزة الأمنية، حتى في أحلك الظروف والتطورات. هذه السياسة التحريرية العامة لشبكة الجزيرة، والحرية التي تتمتع بها، جعلتها تتفوق على سائر المؤسسات الإعلامية العربية الأخرى، التي عجزت عن اللحاق بها حتى اليوم، رغم حدة المنافسة بينها وبين الجزيرة. لماذا عجزت عن اللحاق بها؟ عجزت بسبب الاستبداد، وبسبب تكميم الأفواه وشق الحناجر، وبسبب الهيمنة الأمنية على الإعلام؛ على عقول الناس ومواقفهم وأفكارهم وأحلامهم.
إن الحريات التحريرية التي تتمتع بها شبكة الجزيرة، هي واسطة العقد في هذا المشروع العملاق، وهي مبعث الفخر لدى كل من عمل في الشبكة من الصحفيين.. نعم! حريات مهنية منضبطة بالخط التحريري العام، الذي ترسمه أهداف المؤسسة ومصالح جماهيرها، ومكوناتها الثقافية والاجتماعية والفكرية، وحقها في المعرفة والفهم من مختلف الزوايا، وحقها في التعبير والتفاعل واتخاذ المواقف التي تراها، بدون أن تفرض عليهم الجزيرة رأيا أو تملي عليهم وجهة نظر، وبدون أن تتهم من خالفها في الرأي من الضيوف أو الجمهور بالتخوين أو الترهيب.
لم تخترع الجزيرة هذا الخط التحريري، فقد كانت مجرد ناقل إلى العالم العربي تجربة الإعلام المهني الحر، الذي لم يكن العرب يعرفون له مثالا سوى في إذاعة “بي بي سي” (BBC)، وقد حملت الجزيرة معها في هذا النقل الكثير من المعايير والقيم والأخلاق التحريرية، التي لم يكن مسموحا بها على الإطلاق في عالمنا العربي، ما دفع العديد من المؤسسات الإعلامية الخاصة المهاجرة إلى أن تطور من أدائها؛ بل ساهمت في إعداد جيل من الشباب الإعلاميين العرب، الذين يدينون بالولاء لمهنة الصحافة والإعلام ومبادئها وأخلاقها، ولا يتنازلون عنها مهما كان الثمن، بينما ظلت مؤسسات الاستبداد الإعلامية تراوح مكانها، صبغت جلدها وحدثت أجهزتها وزاحمت غيرها في ميادين التغطية؛ إلا أنها ظلت على سياستها الاستبدادية القمعية ذاتها، ظنا منها أنها بذلك تحكم السيطرة على عقول الجمهور وعواطفهم ومواقفهم، وما عرفت أنها بذلك إنما تسرق التاريخ وتدمر المستقبل، وتستبيح رصيد الأمة، وتوسع ساحة المعتقل. المشكلة الكبرى أن هذه المؤسسات تصر بصورة بشعة على سياستها الإعلامية الاستبدادية، ومصادرة حق الإنسان في الهواء والماء، وترى أن ما تفعله هو عين الصواب، تظن أنها تصعد بالأمة إلى المعالي، وهي تزج بها في مهاوي الهلاك.
على أبواب العقد الثالث
يستقبل الموقع الآن عقده الثالث، ويستقبل معه المزيد من المسؤوليات والتحديات، في عالم عاصف شديد التغيرات، حدد فيه قادته بالتزامن مع إطلاق الموقع أهداف الألفية الثالثة، التي أصبحت بعد 15 عاما خطة دولية لتحويل العالم، احتوت على أهداف التنمية المستدامة، حيث الانتقال إلى عالم يحلم بأنه سيخلو من الأمراض، وستسوده العدالة والمساواة والحرية، وتصل فيه عجلة التنمية والتطور إلى كل مكان، حيث تتحكم فيه التكنولوجيا والمعلومات بكل شيء؛ لكنه -قطعا- لن يكون خاليا من الهيمنة والتسلط والصراعات والمعاناة.
يستقبل الموقع عقده الثالث، وهو يتقدم في عالم شديد التعقيد، لم يعد الإعلام فيه منبر من لا منبر له، فقد أصبح لكل إنسان اليوم عدة منابر تلامس أصابع يديه على مدار الساعة؛ لكن محتواها في معظمه غير احترافي، لا تميز فيه الصدق من الكذب، ولا الحقيقة من الوهم. عالم لم يستطع فيه الإعلام التحرر من سيطرة الأنظمة الاستبدادية، وتسلط رأس المال، وقد احتدمت فيه المنافسة الوضيعة، وعاث فيه التزوير والخداع والتضليل والتطبيل، وأصبح الإعلاميون فيه سلعة منمقة حاضرة لكل مشترٍ.
إن هذا الواقع الشرس، يفسح المجال للموقع ليحافظ على ريادته في الصدارة، وليعزز مهنيته، وتمسكه بمبادئ العمل الإعلامي، واحترامه لجمهوره، وليظل أمينا في توثيق واقعه. وهذا لا يتأتى إلا بمزيد من المثابرة والاجتهاد، ومزيد من التخطيط والتهديف والحرص على التأثير، ومزيد من الالتزام والأصالة والاعتزاز، ومزيد من الإبداع والتألق.
إن الموقع مطالب إزاء هذا الواقع الشرس بألا يقف عند سطح الأحداث؛ بل أن يغوص نحو قيعانها، لفهم حقيقة مساراتها ونقلها للناس، وأن يتعامل مع المبادئ المهنية باعتبارها مقدسة، وأن يحرص تماما على تحقيق معايير الجوادة الكاملة للنص والصورة والفيديو وغيرها من الأشكال، وهذا يتطلب من الكوادر الصحفية أن تبقي عيونها ثاقبة، وذهنها متقدا، وفطنتها حاضرة، ولا يشغلنها سباق العدادات عن أمانة المحتوى ونزاهته، فهناك من الوسائل الإعلامية ما لا مكان لها بين العمالقة؛ لكنها تحرّك العالم بأسره.
إن التهاني التي يستقبلها الموقع بهذه المناسبة، تأتي وسط أحداث دامية، ووقائع مؤلمة، ونتائج مفجعة تحيطنا من كل جانب، وتطورات صادمة لم تكن تخطر ببال أحد، وهذا لا يفسد على الموقع الاستمتاع بالتهنئة؛ بل يدفعه ليشمّر عن ساعديه وساقيه من جديد، فإن رياح التحوّل القادمة عاتية، وتياراته جارفة.