عندما سُئل الصحفي الألماني شتيفان بوخن في مقابلة تلفزيونية عن ردة فعله بشأن التجسس الذي طاله من وكالة الاستخبارات الأمريكية عام 2010، أجاب بوضوح: “لم يفاجئني الخبر، لأني كنت أتوقع منذ مدة طويلة أنهم يتنصتون على هاتفي، ولكن ما فاجأني هو العثور على دليل قاطع بهذا الخصوص”. واشتهر بوخن بحواراته التلفزيونية مع قيادات إسلامية كبيرة في أفغانستان واليمن، ليكون هدفا لتنصت الاستخبارات الأميركية عليه.
ما حدث مع بوخن لم يكن أمرا استثنائيا، لأن حوادث التجسس المتكررة التي تعرض لها الصحفيون، دفعت بعضهم إلى الاعتماد على تكتيكات وخطوات معقّدة لمواجهة تلك الهجمات المنظمة التي تقودها الجهات المنزعجة من الصحفيين. هذا الجو خلق مناخا تسوده الريبة والشك، ودفع البعض إلى التخلي عن كل وسائل الاتصال الإلكترونية أو الحد من استخدامها، في محاولة أخيرة لحماية خصوصيتهم وهوية مصادرهم.
أحدث وقائع التجسس على الصحفيين رصدها برنامج “ما خفي أعظم” الذي تُنتجه قناة “الجزيرة”، من خلال حلقة خاصة بعنوان “شركاء التجسس”. لقد وجد معدو البرنامج أنفسهم أمام قضية استثنائية وضعتهم في قلب القضية، بعد أن وقع عدد منهم ضحية للتجسس، حسب ما قاله مقدّم البرنامج تامر المسحال في حوار أجراه مع مجلة “الصحافة”.
بناء الفرضية
يقول المسحال إن فرضية التحقيق بدأت تتشكل عندما تلقى هاتفه رسائل تهديد من قبيل عبارة You are caught” ” (أنت مرصود)، التي وصلت إلى أحد الهواتف التي يستخدمها فريق العمل للتواصل مع المصادر.
هذا الأمر دفع الفريق إلى البدء بطرح فرضية أن يكون الهاتف المحمول قد تعرّض للاختراق، على الرغم من أنه لم يكن لديهم أي دليل قاطع على ذلك. يقول المسحال إن انتشار الأخبار حول تعاقد دول عربية مع مجموعة “أن.أس.أو” (NSO) الإسرائيلية المشغلّة لبرنامج التجسس الشهير “بيغاسوس”، جعلهم يضعون في الحسبان احتمالية تعرّضهم لهجمة خفية، خصوصا أن ذات الهاتف الذي تلقى رسائل التهديد، استُخدِم في تحقيق سابق للتواصل مع مصادر في الدول التي كانت الشكوك تدور حولها.
الوعي الذي تولّد عند فريق البرنامج بإمكانية تعرضه للتجسس تحوّل إلى بحث عن دليل قاطع حول الموضوع، لذلك تواصل الفريق مع مختبر “سيتيزن لاب” (CITIZEN LAB) المتخصص في الأمن السيبراني والتابع لجامعة تورنتو الكندية. وبعد عملية مراقبة وتتبع للجهاز الذي يستعمله البرنامج استمرت من يناير/كانون الثاني 2020 إلى يوليو/تموز من العام نفسه، تلقى الفريق اتصالا مفاجئا من المختبر يبلغهم فيه أن الجهاز تعرّض فعلا لعملية اختراق.
على هذا النحو، بنى الفريق فرضية أخرى في السعي للكشف عن الجهة التي تقف وراء هذا الاختراق، ليتضح أن العملية تمت باستخدام برنامج “بيغاسوس” الذي تسوقه مجموعة “أن.أس.أو” المتخصصة في تطوير أدوات التجسس السيبراني. وبحسب موقع “فاست كومباني”، يُعتبر “بيغاسوس” من برامج التجسس الباهظة الثمن، إذ تطلب المجموعة 650 ألف دولار من العملاء مقابل اختراق 10 أجهزة، إضافة إلى نصف مليون دولار كرسوم لتثبيت البرنامج.
تقرير مختبر “سيتيزن لاب” أظهر أيضا أن عملية التجسس استهدفت -بالإضافة إلى فريق إعداد برنامج “ما خفي أعظم”- 36 صحفيا من قناة “الجزيرة”، والصحفية بتلفزيون “العربي” في لندن رانيا دريدي، وصحفيين آخرين.
لستَ في مأمن
صحفيو “الجزيرة” ليسوا وحدهم من تعرّض للتجسس وفق المختبر الكندي، وقالت الصحفية رانيا دريدي في تصريح لصحيفة “الغارديان” إنها صُدمت عند معرفتها أن هاتفها تعرّض لاختراق دام أكثر من 8 شهور متواصلة باستخدام برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي.
الصحفية التونسية ترى أن عملية الاختراق الطويلة لهاتفها انتهكت حياتها الخاصة، باعتبار أن هاتفها -بما يحويه من مكالمات وصور ومقاطع فيديو- أضحى متاحا لأشخاص آخرين، بل إن عملية الاختراق كانت تتيح للجهة التي تقف خلفها إمكانية تشغيل الميكروفون والكاميرا دون معرفة صاحبة الهاتف، وهو ما ينطوي على تهديد صريح على حياتها.
المدير التنفيذي للمجموعة الإسرائيلية شاليف خوليو دافع عن البرنامج خلال مقابلة مع برنامج “60 دقيقة” على شبكة “سي.بي.أس” الأمريكية، نافيا أن تكون هناك أي علاقة لبرنامج “بيغاسوس” بتتبع الصحفيين، وقال في هذا الصدد إن “البرنامج مصمم ويباع فقط لوكالات إنفاذ القانون والاستخبارات لمنع الجريمة والإرهاب”.
هذه التصريحات فنّدها الخبير في الشؤون الاستخباراتية الأمريكية الإسرائيلية يوسي ميليمان، معتبرا أن المجموعة تساهم في تسهيل عمليات اختراق هواتف الصحفيين والنشطاء، والتي كان أبرز ضحاياها الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي تم التجسس عليه لمعرفة ماذا يقول وماذا يكتب، وانتهى به الأمر مقتولا في قنصلية بلاده.
لا خصوصية بعد اليوم
ذات السيناريو الأسود للتجسس عاشه الصحفي المكسيكي خافيير فالديز يوم 15 مايو/أيار 2017، وهو يغادر مقر صحيفة “ريودوس” التي أسّسها بهدف تغطية أخبار الجريمة المنظمة وعصابات المخدرات، حين أفرغ ملثمون ما يكفي من الرصاص في جسده، وسرقوا ملفاته وحاسوبه المحمول وهاتفه. بعد أيام قليلة من مقتله، تلقت زوجته وبعض زملائه رسائل نصية خبيثة مصمّمة بعناية فائقة، من أجل دفعهم للنقر على روابط تؤدي إلى اختراق هواتفهم باستخدام برنامج “بيغاسوس”.
في خضم التحقيقات الصحفية المرتبطة بقضية “خافيير فالديز”، رُبطت المعطيات المتوفرة بعضُها ببعض (برنامج تجسس إسرائيلي، عصابات مخدرات، فساد حكومي…)، لتضع وسائل الإعلام فرضيتين كلتاهما أسوأ من الأخرى: إما أن إسرائيل تبيع تكنولوجيا التجسس لعصابات المخدرات العنيفة، أو أن الفساد ينخر الحكومة المكسيكية لدرجة أنها وضعت برنامج التجسس وإمكانياته الاستخباراتية في يد مافيا تجار المخدرات.
هذه الشهادات الحساسة دقّت ناقوس الخطر لدى كثير من الجهات الحقوقية، ودفعتها للتحرك سريعا لوقف هذه الاعتداءات الممنهجة على خصوصية النشطاء والصحفيين.
منظمة العفو الدولية قادت تحركا قانونيا ضد برنامج “بيغاسوس” بعدما عانت بدورها من تبعاته، موجهة أصابع الاتهام إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية باعتبارها الجهة التي توافق على تصدير البرنامج إلى حكومات العالم وتصادق عليه، إلا أن المحاكم الإسرائيلية تجاهلت “جبالا” من الأدلة التي قدمتها لها المنظمة ورفضت إبطال رخصة التصدير الخاصة بالمجموعة.
ولم تسلم شركة فيسبوك من عملية التجسس على مستخدمي موقعها، مما اضطرها إلى رفع شكوى ضد المجموعة الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 2019 بسبب انتهاك الأخيرة لحسابات المستخدمين على موقع فيسبوك وتطبيق واتساب التابع لها.
وبعد أيام من نشر تحقيق “شركاء التجسس” على قناة “الجزيرة”، انضم عدد من كبرى شركات التقنية العالمية -مثل “مايكروسوفت” و”غوغل”- إلى المعركة القانونية التي تخوضها شركة فيسبوك ضد مجموعة “أن.أس.أو”، وقدموا مذكرة مساندة في محكمة فيدرالية أمريكية، حذروا فيها من أن المجموعة الإسرائيلية تملك أدوات “قوية وخطيرة“.
وفي نفس الصف، دقت المنظمات الحقوقية المعنية بحماية الصحفيين ناقوس الخطر، وسعت لطرح حلول آنية وعاجلة تحقق أمانا رقميا للصحفيين. لجنة حماية الصحفيين الدولية (CPJ)، وفي تقرير نشرته حول “مكافحة خطر التجسس”، أكدت على مجموعة من النقاط التي اعتبرتها مهمة لحماية خصوصية الصحفيين الذين يجدون أنفسهم عرضة للاستهداف من جهات عدة.
ترى اللجنة أن ثمة ضرورة لأن يكون الصحفي متمكنا من معارف تقنية متقدمة في مجال الهواتف الذكية، وأن يفكّر في استخدام هواتف غير ذكية ويستبدلها كل فترة. كما شددت على ضرورة تحديث (Update) أنظمة تشغيل الهواتف والتطبيقات بانتظام، وأن يخزّن الصحفي جهات الاتصال ومعلوماتها على حسابه في موقع غوغل فقط، ليضمن بقاءها خارج الجهاز، ومن ثم يوفر لها الحماية في حال تعرُّض هاتفه للاختراق أو السرقة.
غير أن هذه الإجراءات لن تكون مجدية بشكل كبير في مواجهة تقنيات التجسس، لا سيما أن تلك البرامج تقف وراءها دول وحكومات تسعى لتطويرها باستمرار.
ما يترتب على عمليات الاختراق تلك من خطورة على حياة الصحفيين، يمكن أن يصل حد التصفية الجسدية لهم، فالإحصائيات التي قدمتها لجنة حماية الصحفيين خلال العام 2020، تؤكد مقتل أكثر من 30 صحفيا عبر العالم انتقاما منهم بسبب عملهم.
وبعدما أضحى مستهدفا باعتماد أدوات وأساليب غير ملموسة ولا مرئية، يجد الصحفي نفسه في منتصف طريق وبين خيارين كلاهما مر: المضي قدما ومواصلة التواصل بالتقنيات الحديثة، أو التراجع إلى عهد ما قبل الإنترنت وتحمّل ما يرافق ذلك من صعوبات في إنجاز أعماله والوصول إلى مصادره التي تشكل عصب نشاطه، مثلما فعل الصحفي الألماني شتيفان بوخن الذي قرر أن يعود لاستخدام الطرق التقليدية في عمله ويتخلى عن التقنيات المتطورة على حساب الحفاظ على خصوصيته.