أقلام حرة

السردية الفلسطينية.. حين تطمس اللغة الحقيقة

عبير النجار

جوديث بتلر تنبهنا بأن العالم يخفق عادة بالاستجابة المنصفة للمعاناة البشرية، ذلك أن ثمة تفاوتًا ظاهرًا في منح استحقاق الأسى (Grievability) على الحياة البشرية بين فئة وأخرى، مما يشير إلى فرق واضح في القيمة المنوطة سياسيا بحياة الأفراد. فخلال شهر أبريل 2021، رأينا كيف أن تغطية وسائل الإعلام العالمية للنضال الفلسطيني تعمّدت التهوين من شأن المأساة الفلسطينية، مستخدمة عددًا من الإستراتيجيات لتصدير الرواية الإسرائيلية الرسمية، غير آبهة بالازدواج الصارخ للمعايير، عند إنكار نضال الفلسطينيين من أجل حقوقهم، والتعمية على جرائم الحرب الإسرائيلية بالتدليس والتمويه اللغوي. مما يغري بالاستنتاج بأن حياة الفلسطيني لا تحظى بنفس القيمة في الإعلام الدولي التي تحظى بها حياة الإسرائيلي.

كما يعمد الإعلام إلى التغافل عن واقع الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكه القوانين الدولية، رغم أنه يمثل السياق الأساسي الذي اندلعت فيه الأحداث الأخيرة وتطوّرت، فيصوّرها كأنها نزاع بين “طرفين” متساويين في الموقف القانوني والأخلاقي، ومتعادلين في القوة العسكرية والتطور التقني والسيطرة على الموارد، وهي مغالطة شديدة الوضوح.

 

تبدلات في التغطية السائدة

 

طرأ مؤخرًا تحوّل ملحوظ يعِدُ بتحسّن تغطية القضيّة الفلسطينية، ومنح هامش أكبر للأصوات الفلسطينية في وسائل الإعلام الأساسية في الولايات المتحدة. فقد طالعتنا صحيفة نيويورك تايمز مثلًا، بعنوان على الصفحة الرئيسية في نسختها الصادرة يوم 28 مايو/أيار 2021، يقول “مأساة العيش تحت الاحتلال”. ثم أتبعت ذلك بنشر أسماء وصور الأطفال الفلسطينيين الذين قتلتهم الاعتداءات الإسرائيلية على غزة.

كما رصدنا عددًا من الأمثلة الأخرى لتغطيات صحفية أكثر توازنًا مهنيًا وأخلاقيًا في سياق تغطية الأحداث في فلسطين. مهدي حسن، في برنامجه على قناة MSNBC، قدم تغطية ممتازة للموضوع، حيث كتب حسن في 12 مايو/أيار 2021: “في الإعلام الأمريكي، نميل عادة إلى الحديث عن قطاع غزّة حين تنفجر الأوضاع -وحسب- أي حين تبدأ حماس بإطلاق الصواريخ على إسرائيل، كما فعلت هذا الأسبوع، وما يحصل حينها هو أننا نغفل السياق الأكبر”.

ومع ذلك، لم تسلم مثل هذه التغطيات المتوازنة للقضية الفلسطينية من محاولة النيل منها وإثارة الجدل حولها في وسائل الإعلام الأمريكية. ففي حين أثنت بعضها، مثل “فوكس نيوز” و”ديلي بيست” وغيرها على التغطيات المختلفة التي قدمها كل من أيمن محي الدين ومهدي حسن، إضافة إلى الشكر الذي توجهت به القانونية نورا عريقات إلى كريستيان أمانبور، لإتاحة المجال لها لمطالبة إسرائيل برفع حصارها عن قطاع غزّة، كخطوة أساسية لخفض التصعيد، رأينا في المقابل كيف انتقدت فوكس نيوز منشورًا لأيمن محي الدين على إنستغرام يسلّط فيه الضوء على عدم التوازن في القوة العسكرية بين إسرائيل والفلسطينيين، حتى إن القناة قد أخذت على عاتقها التصدّي لذلك المنشور عبر قصّة صحفية خاصّة، وهو ما يدلّ على أن التغطية الجيّدة للقضية الفلسطينية ما تزال نادرة ولا تؤخذ على محمل الجدّ.

 

استخدمت العناوين الغامضة مثل “اشتباكات” و”العنف في الشرق الأوسط” كصياغات للتستر على الانتهاكات الإسرائيلية (تصوير: أنس محمد – شترستوك).

لوم الضحية عبر استجواب المصادر الفلسطينية

 

درجت العادة في الإعلام الغربي السائد والمسيطر عالميًا أن تكون الضحية الفلسطينية بلا اسم ولا وجه، ما لا يجعلها في أغلب الأحيان موضعًا للتضامن والتعاطف. بينما نجد التركيز ينصب على معاناة الإسرائيليين، فيتعرف إليها القارئ والمشاهد الغربي بالكلمة والصورة والفيديو، ومع التحديد الواضح للجاني وهويته. أما خسارة الفلسطيني ومعاناته فلا تصل إلى الجماهير العالمية إلا ضمن إطار يجعل هذا الفلسطيني نفسه مسؤولًا عن تلك المعاناة التي جلبها لنفسه.

ما يغيب عن هذه التغطية عادة هو السياق الذي يوضّح سلب الحقوق الفلسطينية على يد الاحتلال الإسرائيلي عبر آلة القوّة التي يحوزها. فلا نكاد نجد ذكرًا لاقتحامات القوات الإسرائيلية المتكررة للمسجد الأقصى، وحرمان المصلين الفلسطينيين من ممارسة شعائرهم الدينية خلال شهر رمضان، والاعتداء عليهم داخل المسجد، وجرح أكثر من 500 شخص خلال بضعة أيام. لم يشكّل ذلك كلّه أخبارًا تستحق المتابعة لدى العديد من تلك الوسائل الإعلامية، وهي ممارسات صحفية تثير الشكّ بالأحكام التي ينطلق منها الصحفيون والمحررون في عملهم.

وعند النظر إلى كيفية التعامل مع المصادر الفلسطينية، سنرى أنهم عادة ما تؤجّل إفاداتهم إلى حين الانتهاء من تقديم الرواية الإسرائيلية على لسان المتحدثين بها. فبين السادس والتاسع من مايو/أيار 2021، كانت الاقتباسات من المصادر الحكومية والعسكرية الإسرائيلية تسبق أي تعليق من مصدر فلسطيني. أما في المقابلات التلفزيونية المباشرة، فكان يطلب من المصادر الفلسطينية باستمرار تقديم إدانة مطلقة لحركة حماس أو ضدّ “عنف المتظاهرين”، قبل أن يشرعوا بالحديث عن الأحداث وسياقها، أو حتى التعبير عن ذلك من منظورهم الشخصي؛ فيبدو الأمر وكأن مجرد دعوة الفلسطيني للحديث تجاوز لا بدّ من تسويغه عبر دفعه إلى لوم ذاته وقبول الرواية الصهيونية وما تنطوي عليه من اتهامات تلومه على إثارة العنف.

في المقابل لم يحدث أن تعرض مسؤول عسكري أو سياسي إسرائيلي في مقابلة على التلفزيون لمثل هذا الضغط من أجل إدانة الوحشية التي تمارسها إسرائيل ضد المتظاهرين الفلسطينيين، وإدانة الاستفزازات المتمثلة باقتحام المسجد الأقصى مرتين، وإطلاق الرصاص المطاطي وقنابل الصوت على المصلين داخل المسجد. كما لم يجر استجواب المصادر الإسرائيلية بشأن الاعتقالات الشرسة التي تمارسها قوات الاحتلال ضد المتظاهرين الفلسطينيين لمجرد دفاعهم عن المصلين، أو ضدّ المتظاهرين الذين يرفضون التخلي عن أراضيهم وبيوتهم في القدس الشرقية.

 

التمويه والخلط بين الجلاد والضحية

 

حين يكون الفاعل في موقف ما فلسطينيًا، فإنه يجري تسليط الضوء بوضوح على هويته، ويتم استخدام صيغة الفاعل المباشرة في التقارير والعناوين. أما لو كان المعتدي إسرائيليًا، من قوات الأمن أو الجيش أو المستوطنين، فإن كلًا من هويّة الفاعل والضحيّة تبقى غامضة (مبهمة) وقابلة للخلط، ويتم الاكتفاء بوصف الحدث في الخبر بأنه “تصعيد” أو “اشتباك”. فأثناء الاحتجاجات الفلسطينية في القدس، اعتدت قوات الأمن الإسرائيلية على الفلسطينيين وجرحت 200 – 300 منهم خلال بضعة أيام فقط. إلا أن العديد من العناوين الصحفية التي تناولت ذلك، أسقطت عدد الضحايا، ولم تحدّد المعتدي من المعتدى عليهم. فقد أشارت قناة “فرانس 24” الناطقة بالإنجليزية -مثلًا- إلى وقوع “مئات الجرحى في اشتباك بين الشرطة الإسرائيلية والفلسطينيين في المسجد الأقصى في القدس”، واستخدمت رويترز كذلك ذات العنوان تقريبًا: “اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية وفلسطينيين يخلف عشرات الجرحى”. وهو ما تكرر في اليوم التالي على “بي بي سي”: “عشرات الجرحى في اشتباكات في القدس”، دون تحديد هويّة المعتدي أو هويّة المعتدى عليهم. كما خلت التغطية من أي توضيح بشأن حجم الإصابات أو أية إشارة للفروقات في القوّة بين المتظاهرين والمصلين الفلسطينيين من جهة والشرطة الإسرائيلية المدججة بالسلاح من جهة أخرى.

 

أعادت وسائل التواصل الاجتماعي بعض التوازن إلى التغطية الصحفية غير المتوازنة لبعض وسائل الإعلام المعروفة (تصوير: عابد الهشلمون – إ ب أ).

الأولوية للمصادر الإسرائيلية

 

تزايد الاهتمام في وسائل الإعلام الغربية بالتغطية الإخبارية للأحداث في فلسطين، بعد أن ردّت حماس على الاعتداءات الإسرائيلية في القدس الشرقية المحتلة، إلا أن العديد منها، من بينها “نيويورك تايمز”، و”بي بي سي”، و”أسوشيتد برس”، و”رويترز”، و”دويتشه فيله”، و”فرانس 24 الإنجليزية”، تجنبت الإشارة إلى سياق الاحتلال وعدم شرعية وجوده في القدس الشرقية، أو لشراسة الشرطة الإسرائيلية مع المتظاهرين والمصلين، رغم وفرة الأدلة على ذلك، من صور ومقاطع فيديو وشهادات مباشرة. أما العناوين المستخدمة في الإعلام سالف الذكر فكانت في غالبها صياغات لغوية مختلفة لفكرة واحدة مفادها: “العنف في القدس يؤدي إلى إطلاق الصواريخ والغارات الجويّة”.

هذا التوظيف الغامض للغة بهدف التستّر على الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين لم يعد سرًا، وقد أشار إليه حسام زملط، السفير الفلسطيني لدى المملكة المتحدة، أثناء مقابلة معه في برنامج “نيوز نايت” على “بي بي سي”. ففي تلك المقابلة، طلبت مقدمة البرنامج، إميلي ميتليس، من زملط أن يعبّر عن إدانة هجمات حماس على إسرائيل، إلا أن زملط انتقد ذلك الاستجواب، وأخبرها بأنها تتناول “العرَض” (هجمات حماس) وتتجاهل “المرض” (الاحتلال الإسرائيلي). كما اتهم زملط المحاورة وطريقتها بأنها متناقضة وتكيل بمكيالين.

الناشط الفلسطيني الشاب من حي الشيخ جرّاح، محمّد الكرد، نشر على حسابه على تويتر مقطعًا من مقابلة أجرتها معه شبكة “سي أن أن”، وعلق قائلًا: إن تأطير المسألة لم يكن سليمًا، ما اضطرّه إلى التدخّل. ففي المقابلة سألته المذيعة: “هل تؤيّد المظاهرات، المظاهرات غير السلمية، التي اندلعت تضامنًا معك، ومع العائلات الأخرى التي تمرّ بنفس الوضع حاليًا؟” فردّ عليها محمد الكرد: “وهل تؤيّدين أن أتعرض أنا وعائلتي للسلب والعنف؟” ومن المعروف أن منزل عائلة الكرد هو أحد المنازل التي يواجه سكّانها تهديدات بإخلائها قسريًا من قبل الشرطة الإسرائيلية، كما استولت مجموعة من المستوطنين الإسرائيليين على جزء من منزل العائلة منذ العام 2009.

 

وحشية الاحتلال: أين اختفى السياق؟

 

بدا أن العديد من وسائل الإعلام الرئيسية قد قررت إغفال وتهميش الجرائم التي ترتكبها قوات الشرطة والجيش الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وذلك عبر اللجوء إلى صيغ المبني للمجهول والتلاعب بالصياغة اللغوية للعناوين. والأدهى من ذلك هو الإصرار على إسقاط الحقائق السياقية الأساسية للقضية، وفي مقدمتها حقيقة أن الضفة الغربية واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأن قطاع غزة يرزح تحت حصار إسرائيلي منذ أكثر من 14 عامًا، إضافة إلى حقيقة التفاوت الكبير على مستوى القوى والبنية التحتية العسكرية والتقنية لإسرائيل مقارنة مع الوسائل البدائية للمقاومة الفلسطينية. فالجيش الإسرائيلي يحتل مرتبة متقدّمة عالميًا على مستوى القدرات التقنية الهائلة التي يحوزها. كما تهمل وسائل الإعلام الغربية الرواية الفلسطينية نفسها، مغفلة لحقيقة أن الممارسات الإسرائيلية تنتهك القوانين الدولية، بل وترقى في بعض الحالات إلى جرائم حرب.

نلحظ في العديد من العناوين في التقارير الإخبارية عبارات من قبيل “المزار المقدّس” (Holy Shrine)، أو “الموقع المقدس” (Holy site)، للإشارة إلى المسجد الأقصى. ففي أسوشيتد برس ونيويورك تايمز، يتحوّل المسجد الأقصى إلى “مزار مقدّس”، بينما تشير إليه شبكة “أي بي سي” بعبارة “الموقع المقدس”. وهكذا يسقط أي اعتبار لحقيقة أن مئات الفلسطينيين الذين جرحوا أثناء الاعتداءات الإسرائيلية، كانوا في واقع الأمر داخل المسجد الأقصى وباحاته، معتكفين على مدى عشرة أيام خلال شهر رمضان المبارك. كل ذلك يغيب تمامًا عن التغطية الإخبارية للأحداث، ولا يتمّ إيلاؤه أية أهمية. ولتقريب الصورة أكثر، يمكن أن نتخيل -مثلًا- ردّة الفعل في وسائل الإعلام العالمية لو كان الانتهاك قد استهدف إحدى الكنائس خلال أعياد الفصح المجيد، أو لو أن كنيسًا يهوديًا تعرض ومن فيه من المصلين للاعتداء من قبل رجال أمن في مكان ما. يعلّق المؤرخ الأمريكي جوان كول من جامعة ميتشيغن على ذلك قائلا: “فلنتخيّل لو أن الإسرائيليين هاجموا كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان خلال عيد الفصح، هذا تقريبًا ما يشعر به المسلمون إزاء الاعتداء على المسجد الأقصى في القدس”.

نجد في المقابل توصيف جرائم الطرد القسرية في حيّ الشيخ جرّاح بأنها مجرد إجراءات “إخلاء”، وذلك بالاتساق مع الرواية الإسرائيلية التي تختزل المسألة بأنها “نزاع عقاري”، وهي تعبيرات تكررت في العديد من وسائل الإعلام الكبرى. ففي نيويورك تايمز نطالع هذا العنوان: “الإخلاءات في القدس في مركز النزاع الإسرائيلي الفلسطيني”. كما تسقط العديد من التقارير ذكر حي الشيخ جرّاح، أو تتجنّب بيان أنّه يقع في القدس الشرقية.

إن اللجوء إلى وصف القضية بأنها “متنازع عليها” من شأنه أن يطمس هوية السكّان الفلسطينيين للمكان، وتاريخهم فيه، كما يتجاهل حقيقة أساسية تتمثّل في أن القدس الشرقية تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي. حتى صحيفة الغارديان، التي تُعرف منذ عقود بمواقفها المناهضة للمؤسسة (anti-establishment)، وقعت في هذه المغالطة وأغفلت حقائق جوهرية حول القضية، بشكل يتعارض مع المبادئ المهنية. إذ نجد على موقع الغارديان عناوين وعبارات لا تختلف كثيرًا عن تلك التي سردناها سابقًا، منها مثلًا: “سلسلة من التطورات تزيد من اشتعال الموقف المضطرب أصلًا في المدينة المقدسة”.

 

وصفت جرائم الطرد القسرية في حيّ الشيخ جرّاح بأنها مجرد إجراءات “إخلاء”، بالاتساق مع الرواية الإسرائيلية التي تختزل المسألة بأنها “نزاع عقاري” (تصوير: إدوارد كراوفورد – شترستوك).

هل من إنصاف في التغطية الإعلامية العالمية للشأن الفلسطيني؟

 

حين يكون الفلسطيني ضحية، فإن هويته تتعرض للإخفاء، وحين يقاوم، تصبح هذه الهويّة معروفة ويتم التركيز على أن “المعتدي” فلسطيني. إن تغييب الحقائق السياقية الأساسية، والمتمثّلة تحديدًا بالاحتلال الإسرائيلي المتواصل منذ عقود وما فرضه من واقع على الأرض هو مثال آخر على الإستراتيجية الصحفية المتبعة في وسائل الإعلام الغربية السائدة، والتي أسهمت في دعم الرواية الرسمية الإسرائيلية، وأثرت سلبًا على مصداقية العديد من المؤسسات الإخبارية، عدا عن أنها لم تقم بواجبها في تقديم تغطية واضحة ومتوازنة للقراء والمشاهدين.

المصدر : الجزيرة نت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى