على مدى عقود طويلة ازدهرت خلالها صناعة الإعلام بشكلها «التقليدي»، ظل المنظّرون يؤكدون ضرورة تكريس النزعة المؤسسية في عمل المنظمات الإعلامية، بل إن معظمهم ذهب إلى أن إحدى أهم المشكلات التي تواجه تلك الصناعة تكمن في ابتعادها عن النهج المؤسسي.
والواقع أن معاينة التجارب الإعلامية الناجحة والمرموقة في عالم الإعلام الذي يوصف بأنه «تقليدي» تكشف بوضوح عن وجود رابط قوي، يصعب جداً دحضه،
أو الالتفاف عليه، بين قدرة المنظمة الإعلامية على التمركز والمنافسة والنمو من جانب وبين تبنيها أنماط أداء مؤسسية من جانب آخر.
أو الالتفاف عليه، بين قدرة المنظمة الإعلامية على التمركز والمنافسة والنمو من جانب وبين تبنيها أنماط أداء مؤسسية من جانب آخر.
لم تظهر أي صعوبة في إذكاء هذا الرابط والتأكيد على وجوده وفاعليته على مر تلك العقود الطويلة، بل إن التجارب المشرقة التي ظهرت في أداء مؤسسات مثل «رويترز» و«بي بي سي» و«نيويورك تايمز» و«سي إن إن» وأسوشييتد برس»
وغيرها من العلامات التجارية الباهرة في الوسط الإعلامي، ظلت تقدر هذا الرابط، وتحث على اعتماده وتكريسه.
وغيرها من العلامات التجارية الباهرة في الوسط الإعلامي، ظلت تقدر هذا الرابط، وتحث على اعتماده وتكريسه.
وفي كليات الإعلام ومعاهده، على امتداد العالم شرقاً وغرباً، ظل الطلاب يدرسون مادة أساسية عن «إدارة المؤسسات الإعلامية»، وفي تلك المادة تدافع آلاف الأساتذة والباحثين لإثبات نجاعة النهج المؤسسي، واشتراط وجوده لضمان استدامة الأداء والتقدم في المنافسة.
ولذلك، لم يكن مستغرباً أن تنطوي عمليات التدريب الإعلامي على مستوى القيادات، في أفضل مراكز التدريب ومعاهده، على مساقات تدريبية معدة بعناية لتطوير قدرات التنظيم والإدارة لدى قادة العمل الإعلامي، بل إن بعض المنظمات الإعلامية ظلت تشترط وجوب الحصول على هذا النوع من التدريب قبل ترشيح العاملين للوظائف القيادية بها.
وراحت وسائل إعلام عالمية كبرى تصدر تجاربها في التنظيم المؤسسي للآخرين، وتنشر، في هذا الصدد، أدلة وأكواداً وبروتوكولات وسجلات للسياسات والإجراءات المتبعة بها على سبيل الإلهام والتعليم، وهو جهد تجاوز هذا الهدف في معظم الحالات، ليصبح في كثير منها عاملاً من عوامل الترويج لتلك الوسائل، وأداة لإثبات قدراتها التنافسية، وعنواناً لامتلاكها الطاقات اللازمة للاستدامة والتفوق.
وفي المحصلة، بات لدينا ميراث علمي وعملي هائل من التنظير والتجارب والأدوات والمنتجات التي تكرس النزعة المؤسسية في المنظمة الإعلامية، وتشرح أبعادها، وتحض على تبنيها، وهو ميراث بات -للأسف الشديد- قابلاً للتشكيك في أهميته ومدى احتياجنا إليه.
فلا تزال الأخبار تأتي من أصقاع مختلفة من العالم عن اختراقات إعلامية ضخمة ومؤثرة حققتها أنماط أداء إعلامي فردية أو جماعية لكن من دون أي نزعة مؤسسية أو نهج تنظيمي.
وفي الأسبوع الماضي، احتفى كثيرون بالإنجاز الكبير والمقدر الذي حققه «يوتيوبر» عشريني، يبث مقاطع فيديو من الكويت، وتصعب جداً معرفة جنسيته على وجه الدقة، عندما استطاع أن يجمع مليون دولار لمساعدة اللاجئين والنازحين السوريين في أكثر من بلد، بتوفير احتياجات الغذاء والتدفئة لهم اتقاء لبرد الشتاء، من خلال بث مباشر استمر لمدة 28 ساعة، وكلل أخيراً بجمع المبلغ من 31 ألف متبرع، من بين جمهور قناته على موقع «يوتيوب»، الذي يبلغ 21 مليون متابع.
يذكرنا هذا «اليوتيوبر» الشاب الملقب بـ«أبو فلة»، بشاب يمني آخر، يدعى هاشم الغيلي، ويبلغ من العمر 32 عاماً، حيث كان موضع اهتمام وسائط الإعلام الدولية في الفترة الأخيرة، بعدما استطاع من شقة صغيرة في ألمانيا، أن يصبح نجماً عالمياً على مواقع «التواصل الاجتماعي»، حين حطم مؤشر الانتشار بـ15 مليار مشاهدة، من خلال 30 مليون متابع لصفحته على «فيسبوك»، متجاوزاً معايير التأثير التقليدي بأرقام أذهلت رواد العالم الرقمي.
وفي نهاية العام الماضي، أصدرت مجلة «فوربز» قائمة بأكثر عشرة أشخاص تحقيقاً للأرباح عبر «يوتيوب»، قائلة إن أرباحهم بلغت أكثر من 2.1 مليار دولار في عام 2020، حيث جاء في مقدمتهم طفل لم يتجاوز التاسعة من عمره يدعى رايان كاجي، بعائدات تزيد عن 30 مليون دولار، من خلال قناته «عالم رايان» التي يتابعها 41 مليون مشترك.
يقودنا هذا إلى ضرورة مراجعة أثر اعتماد النهج المؤسسي في العمل الإعلامي، بل ومراجعة الكثير مما كنا قد تعلمناه أو فهمناه عن صناعة الإعلام، قبل أن نخصص جهوداً وموارد كبيرة لمحاولة معرفة كيف ينجح هؤلاء الأطفال والمراهقون وغيرهم من صناع المحتوى، الذين قد نجهل جنسياتهم أو أسماءهم الحقيقية وركائز نشاطهم، في الهيمنة على عالم الإعلام، من دون تبني أي من القيم المؤسسية التي اعتمدناها لعقود.