أقلام حرة

مناهضة التطبيع الإعلامي أجمل وفاء لشيرين

علي أنوزلا

كان اغتيال الصحافية الفلسطينية شيرين أبوعاقلة برصاص الغدر الإسرائيلي حدثاً مفجعاً وصادماً هزّ ضمائر كلّ الأحرار والحرائر في العالم. لكن، هل كان في الأمر جديد؟ بالتأكيد نعم، فرغم أنّ إسرائيل اعتادت ارتكاب مثل هذه الفظائع منذ أن أقامت كيانها فوق أرض فلسطين المغتصبة، واعتدنا على متابعة جرائمها كدرجات أحوال الطقس، ننظر إليها ببرود وأحياناً بتقزّز ونحن نعبث بجهاز التحكّم عن بعد بحثاً عن شاشة أخرى تنسينا ما رأيناه، إلّا أنّ الفارق هذه المرّة أنّ الضحية هي نفسها الشاهدة على عمليات قتلهم اليومي الذي لا يطاق ولم يتوقف منذ أكثر من سبعين سنة.

وحتى عملية الاغتيال، رغم بشاعتها، كانت ستكون مجرّد رقم يضاف إلى قائمة الشهداء على أرض الشهداء، حتى جاءت المشاهد المروّعة التي تناقلتها كبريات وسائل الإعلام العالمية، لجنود الاحتلال المدجّجين بكلّ أسلحتهم وذخيرتهم الحية وخيولهم السوداء مغمضة العيون وهم يهاجمون نعش شيرين أبوعاقلة. كانت تلك اللحظة المزلزلة أقوى من كلّ الأسلحة التي يمكن أن يملكها أقوى جيش في العالم، لأنّها بكلّ بساطة كسرت فينا جميعاً، وبلا استثناء، جوهر إنسانيتنا، وأعادتنا إلى عهد الخليقة الأولى عندما علمنا الغراب كيف ندفن موتانا بكرامة.

لقد تعوّدنا أن يكشف لنا الاحتلال الصهيوني كل يوم عن وجه بشع لبربريته البهيمية، لكن الوجه الذي أسفر عنه صباح ذاك اليوم الحزين والغاضب يلحّ علينا في البحث عن صياغة جديدة لتعريف مفهوم البربرية والوحشية، لأن هذه المفاهيم لم تعد تنطق بالحقيقة كما رأيناها بأم أعيننا، أو بالأحرى رأينا جزءا منها، حية وعارية على شاشات التلفزيون وفي لحظة وقوعها.

كلّ عبارات التنديد والاستنكار والشجب التي تحفل بها قواميس العالم لا يمكن أن تدين بشاعة تلك البربرية، وكل محاكم الأرض، مهما كانت أحكامها عادلة، ولن تعدل أبدا، لن تجبر الكسر العميق الذي خلفته تلك المشاهد المروّعة والعنيفة في أعماق وجداننا. لا تصدّقوا كل الدعاوى المشدّدة والملحّة على فتح تحقيق دولي فوري نزيهٍ ومستقلٍ وشفافٍ ودقيقٍ وسريعٍ وهلمّ جرا من أوصافٍ تردّدت من كل أنحاء العالم، صادرة عن منظمات ذات مصداقية، وعن أصوات صادقة وغاضبة، بل وحتى عن حلفاء إسرائيل وحماتها، وعن مطبّعين معها. وبالرغم من جدّية من يطالب بهذا التحقيق وصدقه، إلا أنه في مثل هذه الحالات، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بجرائم دولة إسرائيل سينتهي إلى ما آلت إليه تحقيقات في جرائم أبشع وأفظع ارتكبها المجرم نفسه، المشهود له بتاريخه الأسود في المراوغات وتزوير الحقائق، والمعفي سجله من كلّ محاسبة أو عقاب أو تحمل للمسؤولية. ليس في هذا إحباط لأولي العزم على المضي في هذا الطريق الطويل والشاقّ والصعب، لأنّ الحقيقة في غمرة الكذب تستمر، والكشف عنها يبقى معركة طويلة النفس قد تستمرّ شهورا وسنين، حتى ينسى الناس الجريمة ويتصالحوا مع بشاعتها.

ما شجّع إسرائيل ويشجعها على الاستمرار في جرائمها ليس فقط إفلاتها المستمر من العقاب، ولكن أيضا تطبيعنا مع بشاعة فعلها، والتطبيع هنا لا يتعلق فقط بالفعل السياسي الإرادي لبعض الأنظمة العربية التي فرضت إرادتها على شعوبها، وإنما تطبيعنا اليومي مع هذا الفعل الإجرامي المستمر، وأخطر أنواعه التطبيع الإعلامي الذي تروّجه وسائل إعلام عربية تفرض على مشاهديها رواية المجرم باعتبارها وجهة نظر، وتمنحه فرصة تبرير جرائمه في وقت يرفض فيه هو كل أشكال المساءلة أو المحاسبة لفعله الإجرامي.

قبل أن يتفرّق دم الشهيدة شيرين بين الروايات المتناقضة التي لم تتوقف عن التناسل منذ استقرّت رصاصة الغدر في رأسها، وتكريما لروحها الطاهرة، فإن الوفاء لما ناضلت من أجله هو وقف كل أنواع التطبيع الإعلامي مع الكيان الصهيوني، وحظر بث أو استضافة مسؤولي هذا الكيان على كبريات وسائل الإعلام العربية، كما كان عليه الأمر في وسائل إعلام أغلب الدول العربية حتى قبل عشرين سنة فقط. لننظر حولنا إلى ما قامت به الدول الغربية “المتحضرة” و”المتقدّمة”، وما يقوم به إعلامها “التعدّدي” و”الديمقراطي” في تعاطيهم مع حرب أوكرانيا، عندما حظرت هذه الدول بثّ كل وسائل الإعلام الروسية داخل فضاءاتها، ومنعت نشر أخبارها وترويجها عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل بلدانها، وامتنعت وسائل إعلامها “المستقلّة” عن استضافة مسؤولين روس، وخصوصا العسكريين، على منصّاتها، لأنها ترى في ذلك دعاية لحربهم ضد أوكرانيا التي يعتبر الغرب وإعلامه مناصرتها قضية عادلة ودفاعا مبدئيا عن قيمهم المشتركة. فهل تحتاج القضية الفلسطينية التي قامت على أكبر ظلم تاريخي إلى من يذكّر بنبلها وعدالتها؟ ألا تتحدّث الأفعال الإجرامية اليومية عن بشاعة الاحتلال الإسرائيلي المقيت؟ أليست حرب إسرائيل على الفلسطينيين التي لم تتوقف منذ سبعين سنة جائرة وظالمة بكل المعايير القانونية والإنسانية والأخلاقية؟ أليس نظامها المتطرّف هو من أكثر أنواع الأنظمة في عصرنا الحالي دمويةً وعنفاً وعنصريةً وحقداً؟

الاحتلال بطبيعته عمل بشع، وعندما يكون دموياً وإجرامياً ويرتكبه مجرمون عنصريون نظاميون يدفعنا إلى أن نسائل أقدس ما في أعماقنا: ضمائرنا، لمن ما زالت لهم ضمائر، كيف يمكن أن نسكت على بشاعة هذا الفعل الشنيع الذي لا يمكن أن تبرّره كلّ شرائع الأرض، وبالأحرى أن نطبّع مع من يرتكبه أو يدافع عنه أو يبرّره؟ أليس في فعلنا هذا تواطؤ ضمني مع المجرم؟
أبسط ما يمكن أن تقدّمه قناة الجزيرة لروح أيقونة شهدائها إعلانها رسمياً عن امتناعها، على الأقل حتى تظهر نتائج التحقيق، هذا إن كُتب له أن يفتح أصلاً، عن استضافة أي شخصيةٍ إسرائيليةٍ تمثّل حكومة الاحتلال أو مؤسساته أو تدافع عن جرائمه، وهذا أضعف الإيمان من القناة، لتصون ذاكرة شيرين وصوتها ورسالتها الملتزمة بقضيتها وتحفظ وصيتها بالاستمرار على نهجها، نصرة للحق وإعلاء للكلمة الحرّة والمستقلة في سماء عالمنا العربي.

 

المصدر: عربي 21

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى