أقلام حرة

شيرين السمراء واوكرانيا الشقراء

محمد دراغمة

خصص المؤتمر الاعلامي الدولي السنوي لشبكة التلفاز الألمانية “دوتشيه فيلا” هذا العام 2022 لقضايا إعلامية دولية مثل تغطية الحرب الروسية على أوكرانيا، وتحديات التغطية الصحافية في عهد السوشال ميديا، والاخبار المزورة والاخبار المحرفة، وحدود دور مؤسسات حقوق الانسان في تغطية الصراعات، لكنه لم يتضمن أية إشارة لمقتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة أثناء تغطية اقتحام إسرائيلي لمخيم جنين في الحادي عشر من أيار (مايو).

منح المؤتمر جائزته لفريق صحافي أوكراني قام بتغطية الهجوم الروسي على مدينة ماريوبل. وعندما عرضت المشاهد في المؤتمر قال العديد من المشاركين إنها تتقاطع إلى درجة التطابق مع مشاهد القصف الاسرائيلي على قطاع غزة.
وما زاد من الاحساس بالغبن، أن المؤتمر استضاف صحافيين، واحد أوكراني وثاني إسرائيلي للحديث عن مخاطر التغطية الاعلامية أثناء الحرب.

تحدث الصحافي الأوكراني عن القصف الروسي لمدن وقرى أوكرانية، وعن استهداف المدنيين، ومنها استهداف مستشفى للولادة في مدينة ماريوبل. عرض الصحافي صورا لضحايا القصف الروسي، ومنها صورة لسيدة حامل أصيبت في المستشفى ونقلت، وهو تنزف، إلى مستشىفى آخر. أبلغنا الصحافي الاوكراني أن السيدة توفيت بعد ذلك، ما أشاع أجواء قاتمة في المؤتمر الذي شارك فيه المئات من حول العالم.

من جانبه قدم الصحافي الإسرائيلي عرضا لظروف عمله أثناء تعرض إسرائيل لرشقات صاروخية من قطاع غزة، وتحدث عن قلق زوجته عليه، وهو في مكتبه في تل أبيب، من القصف الفلسطيني..

استغرب الكثير من المشاركين في المؤتمر استضافة صحافي إسرائيلي للحديث عن العمل تحت القصف لعلمهم أن القصف الأشد والأكبر والأوسع دمارا كانت تتعرض له غزة.

وقف صحافي فلسطيني سابق، هو عدنان الجولاني من القدس، وقدم مداخلة أثارت اهتمام الجمهور القادم من مجتمعات الأخبار، حول ظروف العمل الصحافي في فلسطين تحت العمليات العسكرية الاسرائيلية التي لا تتوقف.

قال عدنان: “يمكنكم استضافة صحافي اسرائيلي للحديث عن خطر التغطية الصحافية تحت القصف، لا اعتراض على ذلك، لكن المثال الأكثر سطوعا على العمل تحت القصف والخطر هو مقتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة برصاص الجيش الاسرائيلي أثناء قيامها بتغطية عملية اقتحام لمخيم جنين. وإذا أردتم مثالا آخر على خطر التغطية الصحافية في وقت الحرب، ربما كان من الأجدى استضافة أحد الصحافيين من قطاع غزة الذي تعرض العام الماضي لقصف اسرائيلي استمر طيلة 11 يوما بلا توقف، وجرى خلاله قصف وهدم برج الجلاء الذي يضم مكاتب وكالة اسوشييتدبرس العالمية وقناة الجزيرة.

خاطب عدنان الجولاني المؤتمر قائلا بأنه هو نفسه توقف عن العمل في الصحافة بسبب الخطر الحقيقي على الحياة اثناء التغطية الصحافية، وقدم عدمة نماذج أثارت ردود فعل تلقائية متضامنة من المشاركين. قال: كنت ذات نهار أغطي مظاهرة رشق حجارة على مدخل مدينة رام الله. جلست على رصيف الشارع كي استريح من عناء العمل. كان هناك عدد آخر من الناس يجلسون على الرصيف للسبب ذاته، وفجأة سقط شاب كان يجلس بجانبي. نظرت اليه، فإذا به ينزف، فقد أصابته رصاصة اسرائيلية قاتلة، وكان من الممكن أن أكون أنا هذا القتيل.

وروى عن حادثة ثانية كادت أن تتعرض سيارته فيها للسحق من قبل دبابة إسرائيلية على مدخل مخيم بلاطة في الضفة الغربية، أثناء تغطية عملية اجتياح للمخيم في العام 2003.

صفق الحضور طويلا للصحافي عدنان الجولاني لأنهم شعروا أن مداخلته أكثر واقعية.

شعر الصحفي الاسرائيلي بشيء من الحرج لأن مداخلة الصحفي الفلسطيني كانت أكثر تعبيرا عن الخطر الحقيقي على الحياة من كلمته الطويلة التي لم تحمل أي مثال عن خطر جدي على حياته أثناء عمله في إسرائيل، فقام من على مقعده على المنصة، وأسرع متوجها إلى عدنان الجولاني الجالس بين الجمهور في القاعة الواسعة، وصافحة بحراره قائلا: أشد على يديك.

تحدث عدد من الصحافيين الفلسطينيين المشاركين في المؤتمر في جلسات حوارية مختلفة، وفي تجمعات كبيرة عقدت على هامش المؤتمر، عن واقع صادم للتغطية الصحافية في بلادنا. تعمد بعضهم اقتباس تقارير منظمات حقوق الانسان الاسرائيلية ووسائل الاعلام الأمريكية عن الانتهاكات الاسرائيلية لحقوق الصحافيين، منها تقرير مركز المعلومات الاسرائيلي لحقوق الانسان “بتسيلم” حول مقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة، والذي وصل إلى نتيجة مفادها أنها قتلت برصاص الجيش الاسرائيلي. وتضمن التقرير معلومات أخرى هامة غير معروفة للكثير من المشاركين، وبدت صادمة لهم، منها أن 55 صحافيا فلسطينيا قتلوا على أيدي الجيش الاسرائيلي، وأن خمس حالات فقط وصلت إلى القضاء في إسرائيل، لكن لم يصدر فيها أية إدانة للقتلة.

ومنها أيضا تقارير أربع وسائل إعلام أمريكية كبرى حول الحادث، وهي وكالة أسوشتيتدبرس وصحيفتي “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” وقناة “سي إن إن”، بالإضافة الى تحقيق المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، والتي جميعها أجرت تحقيقات رجحت أو بينت بوضوح مسؤولية الجيش الاسرائيلي بقتل شيرين أبو عاقلة.

يسألني العديد من الصحافيين الذين استمعوا إلى رواتي حول ظروف مقتل شيرين أبو عاقلة، عن السبب الحقيقي لقيام جندي إسرائيلي باستهداف صحافية فلسطينية عن بعد لا يزيد عن 190 مترا، وهي ترتدي كل الإشارات التي تدل على أنها صحافية وفي ظروف لم يكن فيها أي خطر على حياته؟.

لا أملك أي جواب على هذا السؤال، وكل ما أمكنني فعله هو توقعات وتكهنات مستندة إلى وقائع ومنشورات إسرائيلية. أعيد هؤلاء الصحافيين الى مواقع اسرائيلية على الشبكة العنكبوتية، منها موقع لمجموعة تطلق على نفسها اسم “كسر الصمت” وهي مجموعة من الجنود الذين ارتكبوا انتهكاكات واعتداءات فادحة على الفلسطينيين، ثم توقفوا عن ذلك إثر تعرضهم إما لصحوة ضمير، أو لآثار نفسية لما ارتكبوه من أعمال عنف قاسية، وقدموا شهادات مروعة عن تلك الاعمال. ومن هذه الاعترافات اعتراف عدد منهم بانهم كانوا يطلقون النار على الفلسطينيين من أجل تبديد الضجر، أو في رهانات فيما بينهم حول مهاراتهم في القنص، وهم يعلمون أنهم يتمتعون بحصانة كبيرة من قبل قادة الجيش تجنبهم أية محاسبة.. ومن هذه الشهادات شهادة جندي ما انفكت تقض مضجعي ومضجع كل من سمعها، حيث روى أنه تراهن مع زميل له حول مدى قدرته على إصابة فتى فلسطيني في فمة اثناء قيامه بتناول البطيخ في مدينة الخليل. وفعلا، قام هذا الجندي بقنص الفتى الصغير في فمة وقتله. وبعد ذلك بدأ هذا الجندي يشعر بتأنيب ضمير دفعه إلى تقديم شهادته المروعة هذه.
لا تسمع سوى عبارات الاستهجان من الصحافيين مقرونة بعبارات التضامن مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لأبشع أشكال الانتهاكات.

قلت لعدد منهم: “لو كانت شيرين أبو عاقلة أوكرانية شقراء ذات عيون زرقاء لحصلت حتما على جائزة المؤتمر الألماني.
ومما ألقى ظلالا كثيفة على مؤتمر “دوتشية فيلا” هذا العام قيام الشبكة بفصل خمسة صحافيين فلسطينيين من موظفيها على خلفية كتابات على وسائل التواصل الاجتماعي، انتقدوا فيها الانتهاكات الاسرائيلية في الاراضي الفلسطينية.
ناقشت مع عدد من منظمي المؤتمر تجاهل مقتل الصحافية شيرين ابو عاقلة، وهو الحدث الذي هز العالم، تجاهله في مؤتمر دولي على هذا القدر من الأهمية، وقيامها باتخاذ اجراءات قاسية بحق صحافيين فلسطينيين عبروا فيها عن تضامنهم مع ضحايا الانتهاكات الاسرائيلية.

عدد من المنظمين اعترف بأن الأمر سياسي وليس مهنيا. أحدهم قال بوضوح: علاقة ألمانيا مع إسرائيل على درجة كبيرة من الحساسية، وستظل دائما على هذا النحو. المانيا تعيش عقدة ذنب تاريخية جراء المحرقة الرهيبة، لهذا السبب فإن أي شكوى تتقدم بها أية مجموعة يهودية حول أية انتقادات موجهة لإسرائيل تأخذها المؤسسات الالمانية على محمل الجد بصورة استثنائية.
قلت لهم: هل تعلمون أن إسرائيل تتسامح مع مثل هذا النقد أكثر من المانيا؟ قدمت لهم أمثلة على ذلك من مقالات في صحف إسرائيل، وتقارير لمؤسسات حقوق إنسان إسرائيلية، تنتقد الدولة العبرية بشدة، وتتهمها بتأسيس نظام فصل عنصري ضد الفلسطينيين.
أجاب أحدهم: ربما، ربما، لكن هنا في المانيا الأمر مختلف، فالالمان أحرقوا اليهود في غرف الغاز، وهذا الكابوس سيظل يلاحقنا مدى الحياة. قلت له: حسنا، نحن مع اعترافكم بهذا الذنب الكبير، لكن لا تدفعوا ثمنه من جيوب الشعب الفلسطيني الذي يعاني من الاحتلال ومن سياسة نهب الأرض والمياه والطرد والتهجير والقتل والتمييز العنصري البغيض. أومأ برأسه موافقا، لكن رفع يديه في إشارة إلى قلة الحيلة.
ممثلة لمنظمة العفو الدولية عبرت عن غضبها على طغيان السياسي على الاعلامي في مؤتمر “دوتشيه فيلا”. قالت لي: “يبدو أنه جرى انتقاء المتحدثين في المؤتمر وفق معايير سياسية وليس إعلامية، فهم جاءوا وفق أجندة سياسية واضحة هدفها التركيز على الانتهاكات الروسية وتجاهل الانتهاكات الإسرائيلية.
الثيمة الأساسية للمؤتمر هي مواجهة الاخبار المزورة والمحرفة. واعتبرت ممثلة أمنستي أن التركيز على قضية أوكرانيا، وتجاهل القضية الفلسطينية، وبخاصة تجاهل قتل شيرين أبو عاقلة، نوع من التحريف والتزوير. وقالت إن العديد من المتحدثين في المؤتمر انتقدوا تقارير منظمات حقوق الانسان التي تعتبر نظام الاحتلال الاسرائيلي نظاما للتمييز العنصري، داعين هذه المنظمات إلى الاكتفاء بتقديم المعلومات وعدم الوصول إلى استخلاصات. واعتبرت ذلك نوعا من الانحياز لصالح دولة الاحتلال لأغراض سياسية تحت ستار اعلامي.

في الفندق في مدينة بون، صادفنا عدة عائلات أوكرانية. سألت موظفة الديسك التي أخبرتني أن الحكومة وزعت عائلات اوكرانية لاجئة على عدد من فنادق المدينة. قالت إن هذه العائلات تتلقى مخصصات مالية من الحكومة، وأن الفندق سمح لهم استخدام المطبخ لإعداد الطعام بصورة استثنائية. روت الموظفة أن العائلات الأوكرانية المقيمة في الفندق أصيبت بالذعر عندما ضربت المدينة عاصفة رعدية، قبل أسابيع/ حيث اعتقدت أن أصوات الرعد التي سمعتها من غرفها كانت أصوات قصف روسي.

انتفضت الموظفة عندما تذكرت أنها صادفت طفلا أوكرانيا في الفندق يحمل بندقية بلاستيكية قائلة: صرخت على والدته أن ترمي هذه البندقية بعيدا، فأنتم هربتم من العنف وليس مقبولا أن تسمحوا لطفل ان ينشأ على اقتناء أدوات العنف.

الحديث المطول مع الموظفة الالمانية المتقدمة في السن كشف عن بعض عدم الارتياح من اللاجئين الأوكرانيين. روت لي أن لاجئة أوكرانية مقيمة في الفندق عثرت على وظيفة في المدينة، وعندما اكتشفت أن الحكومة الالمانية اوقفت مخصصاتها المالية لأنها بدأت تتقاضى دخلا من مصدر آخر انزعجت كثيرا. قالت: ” قلت لها نحن الالمان لا نحصل على مخصصات مالية حكومية عندما نعمل، أتريدون أن تكونوا أفضل منها في بلدنا، أتريدين أن تحصلي على مرتبين؟”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى