صحيح أن غوغل ليس مجرّد أداة بحث أو مالك لموقع يوتيوب أو موزع للإعلانات، لكن بالنسبة للكثير من ناشري الأخبار، تحوّل من أداة لجلب الزوار أو مشاركة مقاطع الفيديو، إلى منافس حقيقي يستخدم أخبارا ليست من إنتاجه لتقوية علاقته مع مستخدمي منتجاته، ما جعل مواقع كثيرة عبر العالم ترفع دعاوى قضائية على مجموعة غوغل، متهمة إياها بالتسبب في خسائر كبيرة.
الدعاوى القضائية على غوغل وكذلك على فيسبوك وآبل ليست جديدة، فهذه المجموعات متهمة بالاحتكار وإلحاق أضرار كبيرة بسوق الإعلانات ودفع الشركات الصغرى والمتوسطة إلى الإفلاس. لكن ما يهمنا هنا هو الضرر الكبير الذي يسببه غوغل للصحافة، عبر منصة رئيسية هي غوغل نيوز (1)، والمعارك التي تخوضها وسائل الإعلام عبر العالم لافتكاك جزء من العائدات من فكي عملاق الإنترنت.
تحالف وسائل الإعلام الإخبارية (News Media Alliance)، الموجود في الولايات المتحدة، أكد في ورقة له عام 2020 (2) أن غوغل تجاوز حدود “الاستخدام العادل” المعروف في مجال الملكية الفكرية، وبالتالي عليه التفاوض مع الناشرين حول رخصة محددة لكل استخدام. كما تحدث التحالف عن إمكانية قيام خوارزميات غوغل بتفضيل ناشر على آخر، ودفع الناشرين إلى علاقة تفيده هو في المقام الأول.
غوغل نيوز.. في خدمة “القارئ العرضي”
لديك موقع إخباري غير معروف وتبحث بشتى الطرق عن إيصاله إلى الجمهور، ثم تكتشف أن تطبيق غوغل نيوز على هاتفك يُظهر روابط من موقعك. الأمر سيكون مثيراً للبهجة لأن هذا يعني أنك ستربح زيارات من أكبر موزع للأخبار الرقمية في العالم، دون أن تطلب ذلك بالضرورة (ليس ضروريا الاشتراك في خدمة غوغل نيوز حتى يستفيد موقعك منها).
لكن الأمر لا يبدو بهذه الوردية لوسائل الإعلام الكبرى، التي تعوّد المستخدم على الولوج إليها بشكل رسمي انطلاقاً من مواقعها أو تطبيقاتها، إذ إن قيام غوغل نيوز بعرض أخبارها، حتى ولو كان ذلك مقتصرا على العنوان وجزء من التقديم، يجعل القارئ في غنى عن زيارتها بشكل مباشر، خصوصاً أن هناك أعدادا كبيرة من الزوار يقتصرون على قراءة العنوان داخل المواقع والتطبيقات دون النقر على الرابط.
صحيح أنه يمكن للناشرين منع هذه الخدمة من استخدام روابط مواقعهم، لكن في السياق الاحتكاري لغوغل، تظهر خطوة من هذا القبيل انتحارية اقتصاديا؛ فلو رفضت المواقع المشهورة، فإن عشرات من المواقع المتواضعة من حيث الانتشار ستقبل.
لكن حتى وسائل الإعلام المحلية التي تغطي مناطق معينة تعاني من إقصاء غوغل نيوز لها. ففي دراسة منشورة على مجلة “ساينس”، تبين أن المنصة تضع أولا المواقع التي تغطي أخبار الولايات المتحدة ككل في نتائج البحث الأولى حتى ولو كان الخبر يخص ولاية صغيرة لها مواقعها الإخبارية، وهو ما ظهر في أخبار الانتخابات، ففقط 20 بالمئة من نتائج البحث العشر الأولى كانت تعود لمواقع محلية ليست لها الإمكانيات الاقتصادية ذاتها للمواقع الكبرى (3).
صفحات الجوال المسرعة.. عنوان آخر للاحتكار؟
لأجل تسريع دخول المستخدم إلى موقع إخباري ما، أعلن غوغل عن تطبيق تقنية AMP (صفحات الجوال المسرعة)، وهي موجهة كما يدل على ذلك اسمها إلى مستخدمي الهاتف الجوال في قراءة الأخبار (4)، الذين يمثلون حاليا النسبة العظمى من مستخدمي الإنترنت عبر العالم مقابل تراجع مستمر لمستخدمي الحواسيب في قراءة الأخبار.
غير أن هذه التقنية أثارت انتقادات المهنيين، ففي الورقة المذكورة آنفا لتحالف وسائل الإعلام الإخبارية (5)، تمت الإشارة إلى أن غوغل لم يعط خياراً للناشرين غير استخدام هذه التقنية وإلا سيفقدون زواراً كثرا لمواقعهم، كما أجبرهم على تقبل تخزينه كل موادهم بهذه التقنية.
الأضرار حسب الورقة كانت متعددة، منها أن من يقرؤون الخبر يبقون في نظام غوغل، ما يصعّب خلق علاقة بينهم وبين الناشر الأصلي، ويقلّل معدلات الاشتراك، ويحدّ من استخدام الميزات التفاعلية داخل الموقع، وتقليل العائدات الإعلانية، وأن الهدف النهائي هو تحويل منصات غوغل إلى “حديقة محاطة بأسوار”، أي أنها هي المسار النهائي للمستخدم بدل أن تكون محركا للبحث.
المعركة عربياً.. لماذا تظهر صعبة؟
نجحت وسائل الإعلام الأسترالية في دفع البرلمان المحلي إلى إقرار قانون يلزم غوغل وفيسبوك على تفاوض مالي مع وسائل الإعلام الرقمية التي يستخدمان محتواها الإخباري، كما اتفق فيسبوك مع ناشرين بريطانيين لدفع تعويضات لهم بشكل سنوي للسبب ذاته (6).
الأمر نفسه تكرر بشكل آخر في فرنسا، عندما غرّمت هيئة مراقبة الاحتكار غوغل نحو 593 مليون دولار في قضية نزاعها مع ناشري الأخبار، وذلك فضلا عن حكم قضائي بـ 270 مليون دولار (7).
لكن لماذا لا نرى الإجراء ذاته عربياً؟ أكبر عائق لمواجهة غوغل هو ضعف البيئة الاقتصادية للإعلام العربي. مؤسسات الإعلام المستقلة ماديا، أي التي لا تتبع لحكومات أو لا يكون رأسمالها مرتبط بالدعم الحكومي، ليس لديها وجود إقليمي قوي، وهي غالبا صغيرة أو متوسطة، بينما تبقى وسائل الإعلام الممولة حكومياً سواء بشكل كامل أو جزئي هي التي تتسيد المشهد العربي ولها متابعون بالملايين.
العائد الاقتصادي من الإعلانات ليس ذا أهمية بالنسبة لهذه المؤسسات الكبرى. هذا الأمر يختلف في الغرب الذي استطاعت فيه مؤسسات برأسمال خاص لا يخدم توجهات حكومية صرفة أن تتربع على عرش المشهد الإعلامي.
السبب الثاني هو ضعف التكتل الإعلامي العربي، ولا توجد لحد الآن إطارات إقليمية قوية لديها كلمة مسموعة. الخلافات السياسية بين الدول العربية صعّبت من إمكانية قيام تكتلات إعلامية، خصوصا مع التباين الثقافي لأكثر من بلد.
أما على صعيد كل دولة على حدة، فقد كانت هناك محاولات. في المغرب مثلاً، سبق لوزارة الاتصال (سابقا) أن أعلنت توجهها للتفاوض مع غوغل وفيسبوك حول استحواذهما على الإعلانات وما رافق ذلك من أضرارٍ كبيرة على المؤسسات الإعلامية.
لكن مبادرات من هذا القبيل تواجه تحديات في الضغط على الشركتين، لأسباب منها غياب التمثيل القانوني للشركتين في عدة دول في المنطقة، وتواضع التشريعات القانونية فيما يتعلقّ بالاحتكار الرقمي.
وهناك أسباب أخرى تخصّ ضعف المحتوى العربي على الإنترنت، فهو لا يتجاوز 1.2 بالمئة حسب أرقام موقع W3Techs المختص في تحليل بيانات الإنترنت، وذلك في المركز 11 عالميا، بينما يأتي المحتوى التركي مثلا في المركز الثالث بـ 3.9 بالمئة.
ويوجد سبب آخر يخصّ جودة هذا المحتوى الإخباري، وسط قلة المؤسسات الإعلامية العربية التي تنتج محتوى أصليا (أي خارج الوكالات) وغير مترجم.
لكن هذه التحديات يمكن التغلب عليها، وما قد يبدو اليوم أمرا صعبا يمكن أن يجد له طريقا للتحقق، خصوصا على المستوى المحلي، وخاصة الدول التي تحتضن مقرات غوغل كالإمارات ومصر. لكن الأهم إيجاد أدوات لمخاطبة غوغل، وأول ذلك خلق نقاش إعلامي محلي إقليمي يدفع بأصحاب المؤسسات الإعلامية المتضررة إلى التكتل وتوحيد الرؤى.
أمل في نهاية النفق
الضغوط العالمية على غوغل دفعته إلى إعلان خدمة “غوغل نيوز شو كيس” (News Showcase) التي تظهر على غوغل نيوز في الهواتف الذكية، وتتيح للناشرين المشاركين فيها وضع قصصهم على شكل حزمة روابط. تملك الخدمة الكثير من الأدوات التفاعلية كالسرد القصصي والروابط المتعلقة والفيديو والصوت، ووجه الاختلاف حسب إدارة غوغل بينها وبين الخدمة التقليدية لغوغل نيوز هو جعل الناشرين يقررون أيّ قصص تظهر للجمهور وبأيّ طريقة (7).
وقعت غوغل الاتفاق مع الكثير من الناشرين في أوروبا والأمريكتين وآسيا لأجل إنجاح هذه الخدمة الجديدة، وتدفع غوغل مبالغ لكل ناشر على حدة حسب الاتفاق معه. لا توجد أيّ دولة عربية في القائمة للأسف، لكن الخدمة تتوسع وناشرون من دول جديدة دخلوا قائمة المستفيدين، ويمكن أن تكون “غوغل نيوز شو كيس” بوابة لتعاون إعلامي عربي مع غوغل دون المرور بالضرورة عبر متاهات القضاء ونزاعات اللوبيات، خصوصا مع الضعف العربي الواضح في هذا المجال.
- ينشر غوغل نيوز أخبار المواقع على خدمته، سواء في البحث المباشر، أو عبر التطبيق.
- http://www.newsmediaalliance.org/wp-content/uploads/2020/06/Final-Alliance-White-Paper-June-18-2020.pdf
- https://www.washingtonpost.com/politics/2020/12/22/how-google-is-hurting-local-news/
- تعمل هذه التقنية كلغة ترميز، ومن خلالها عوض أن تدخل إلى نطاق خاص بالموقع صاحب الخبر، تدخل إلى نطاق مشترك بينه وبين غوغل. أكبر استفادة للقارئ أن عملية تحميل صفحة الخبر تكون سريعة جدا. تستخدم هذه التقنية في الأخبار التي يتم إيجادها عبر محرك البحث غوغل، أو عبر خدمة وتطبيق غوغل نيوز.
- http://www.newsmediaalliance.org/wp-content/uploads/2020/06/Final-Alliance-White-Paper-June-18-2020.pdf
- https://www.theguardian.com/media/2020/dec/09/australia-is-making-google-and-facebook-pay-for-news-what-difference-will-the-code-make
- https://www.aljazeera.net/news/scienceandtechnology/2021/7/13/%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D8%A7-%D8%AA%D8%BA%D8%B1%D9%85-%D8%AC%D9%88%D8%AC%D9%84-500-%D9%85%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%8A%D9%88%D8%B1%D9%88-%D8%A8%D8%B3%D8%A8%D8%A8-%D8%AD%D9%82%D9%88%D9%82
- https://blog.google/outreach-initiatives/google-news-initiative/google-news-showcase/
المصدر : مجلة الصحافة