إن كافة الأعراف والدساتير والقوانين الدولية أشارت، بالإجماع، على حق حرية الرأي والتعبير وذلك على اعتباره من الحقوق الواجبة على الدولة للمجتمع، وقد تم وضع عدد كبير من الضوابط على هذا الحق المشروع بهدف حماية الحقوق الأخرى التي قد تتناحر وتتنازع مع هذا الحق، وهو أمر ممكن جدا عندما يتجاوز النشاط الاتصالي الجماهيري حدوده ويخرج عن قيم المجتمع العامة، حيث تم تصنف الحقوق الخاصة التي قد تتنازع مع الحق العام في الرأي والتعبير، وما ينعطف عليه من حق الجماهير في المعرفة؛ باعتبار أنها حقوق خاصة لكل من الأفراد والمجتمع والدولة.
اليوم، تعتبر مسألة الأخلاق التطبيقية من المسائل التي يتزايد الاهتمام والنقاش والعناية بها، خاصة لدى معشر الباحثين الذين طالبوا وما زالوا يطالبون بأخلقة كافة ميادين الحياة الاجتماعية، ومن ضمنها تخليق ميدان الصحافة ووسائل الإعلام. ويذكر أن محاولات التنظيم المهني والأخلاقي والقانوني لمهنة الصحافة بمفهومها العريض الشامل (المطبوع والمذاع والإلكتروني- الرسمي والخاص) هي محاولات متراكمة وممتدة، حيث تعود جذورها الأولى إلى عصر التنوير الأوروبي (المسمى كذلك بعصر العقل)، وتحديدا من نهاية القرن السابع عشر. ومع مرور الوقت أصبحت الممارسات المهنية الصحفية تنظم تنظيما ذاتيا في المجتمعات والبلدان الجادة، وعليه، فإن الجهود الرامية لتحقيق تنظيم ممنهج للممارسات المهنية والأخلاقية والقانونية الصحفية تعددت بشكل كبير، وذلك ما بين جهود مؤسسية وفردية وغير رسمية، حيث عملت هذه الجهات المختلفة بشكل منفصل أحيانا ومتصل في أحيان أخرى لإرساء أسس الممارسة المهنية الصحفية والاتفاق على عدد من المبادئ والمواثيق الأخلاقية المنظمة لها. فالصحفيون كغيرهم من المهنيين، لا بد أن يكون لديهم أسس ومبادئ مهنية أخلاقية تساعدهم على إصدار الأحكام الصحيحة في كثير من السلوكيات والممارسات والمواقف التي ستؤثر على حياة الجماهير، فممارساتهم وقراراتهم لابد وأن تكون مبررة قانونيا وأخلاقيا على حد السواء.
ويمكن القول إن الأخلاقيات المهنية هذه لا تفرض بالقانون، إنما يتم الاتفاق على ميثاق، له صفة الإلزام المعنوية المجتمعية، ليبين المبادئ والقيم والمعايير وقواعد السلوك والممارسة الصحفية الصحيحة، فكل صحفي، ابتداء ممن يعمل في قسم المحليات وصولا بمن يدير الموقع الصحفي ومنصات التواصل الاجتماعي للصحيفة انتهاء بمجلس إدارتها، يجب أن يتوفر لديه حس شخصي متنام بالمسؤولية والأخلاق الصحفية لتغدو له بمثابة بوصلة أخلاقية وقيمية يسترشد ويسلك ويلتزم بها. فعند غياب هذه المعايير والأخلاقيات الصحفية المهنية ستخسر وسائل الإعلام مصداقيتها ونزاهتها ولن تفوز بحب ومتابعة الجماهير.
إن واقع الإعلام الجديد جعل من أمر الالتزام بالأخلاقيات التطبيقية – الأخلاقيات المهنية الإعلامية الصحفية- أمرا في غاية التعقيد، فالصحفيون ما زالوا هم أنفسهم، لكن الوسيلة أضاف إليها تقنيات وتكنولوجيات جديدة، ما أدى إلى إحداث ثورة كبرى في بلاط الإعلام والصحافة، فهذا البلاط ارتبط به منذ بديات طلوع المهنة بوظيفة حراسة البوابة الإعلامية Gatekeeper والتي تعني السيطرة على مكان استراتيجي في سلسلة الاتصال، بحيث يصبح لحارس البوابة سلطة اتخاذ القرار فيما سيمر من خلال بوابته، وكيف سيمر حتى يصل في النهاية إلى الجمهور المستهدف، فحراسة البوابة اليوم لا يقوم بها الصحفيون فقط، بل يقوم بها كل المواطنون الذين يستخدمون ويقيدون ويستفيدون من تكنولوجيات الإعلام الجديد. وعليه فإن البيئة الإعلامية الجديدة هذه شكلت لحالة من الفوضى، فالصحفيون المهنيون يقدمون الصحافة مع سيل آخر غير موثوق وغير معلوم من المواطنين الصحفيين المغردين والمدونين، الأمر الذي جعل الأخلاقيات الصحفية على المحك. كما أن المستجدات المتسارعة على الساحات المحلية والدولية في ظل طوفان المعلومات وتزايد مصادر الإعلام الرسمية والشخصية؛ جعلت الصحفي يتسرع أحيانا في نشر مادته أو قصته الخبرية على حساب التأكد والتثبت والاطمئنان على صحتها وموضوعيتها، وهو ما يسمى بـ ظاهرة (الحمى الإعلامية).
إن جزءا لا يستهان به من أخلاقيات الإعلام والصحافة يحدده، بطبيعة الحال، التشريع والقانون، ولكنه لا يتدخل نهائيا في ترتيب الأخبار والمواد الصحفية أو يفرض على الصحفي ما يجب تصديره في الصفحة الأولى أو تأخيره في الصفحات الأخيرة، أو تقديم خبر على حساب خبر آخر، أو حتى صياغة مادة صحفية من زاوية نظر معينة وخاصة، وعليه فإن القانون لا يضيف إضافات جديدة إلى جانب الأخلاقيات التطبيقية المعنوية للمهنة لكنه يأطرها بشكل إلزامي مادي بحت، فالأخلاقيات المهنية إنما تثمن القيم السامية الكبرى (المصداقية، الاستقلالية، التنظيم والسلوك والممارسة الصحفية الأنموذجية).
يقول الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (سيكولوجيا الجماهير): «إن سن القوانين باستمرار ودون توقف، وكذلك سن التشريعات المقيدة التي تغلف أصغر عمل من أعمال الحياة بعبارات بيزنطية معقدة؛ يؤدي في نهاية المطاف إلى التقليص التدريجي للدائرة التي يمكن للمواطنين أن يتحركوا داخلها بحرية، فالشعوب تقع ضحية ذلك الوهم القائل بأنه كلما زدنا من عدد القوانين؛ فإن المساواة والحرية تصبحان مضمونتين بشكل أفضل، وهكذا تقبل كل يوم بفرض إكراهات قسرية جديدة». وعليه فإنه مهما عظمت التشريعات والقوانين الرادعة، فإن الممارسات الصحفية عليها أن تقاد أولا بالضمائر والمواثيق الأخلاقية الصحفية التي تعلو قيمة وأثرا على التشريع والقانون.
المصدر : موقع الوطن