إيجاز شمائل الراحل طلال سلمان، المهنيّة الصحافية، عملٌ شاقّ، فضلا عن أنه ليس عملا حَسنا، فالمشهود أن تجربته العريضة، نحو 60 عاما، اشتملت على الكثير الغنيّ، المتعدّد، مما يلزم أن نأنسَ منه، نحن العاملون في الصحافة والإعلام والكتابة والثقافة، من غير جيلٍ، سابقٍ ولاحق، قيما وفيرةً، منها الانتساب الحقيقيّ للمهنة نفسِها، والإخلاصُ لها، والأخذ بشروطها ومتطلباتّها، للمضيّ إلى النجاح والتميّز، والحضور والفاعلية. ومنها القناعة بأن الصحافة عملٌ جماعيٌّ، يحتاج دائما إلى أن تتجدّد في غضونه الأفكار وأساليبُ الشغل، وتتنوّع فيه الاجتهادات، ودائما بروحيّة المشاركة، والانفتاح على كل الطاقات والقدرات، وإدارة الكفاءات وتثمير جهودِها ومناشطها، وكذا المثابرة على إطلاق المبادرات والإضافات، باتجاه التجويد والتصحيح والتطوير، والحذر اليقظ من كل تراجعٍ محتملٍ أو رتابةٍ غير مستبعدَة أو رطاناتٍ منفّرة، واستشعار المفيد والبديع في اندفاعات الشباب وعطاءاتها.
والراجح، مما تقرأه من عشرات الصحافيين والكتّاب اللبنانيين، وبعض العرب، الذين عملوا تحت إدارة طلال سلمان، ورئاسته تحرير الصحيفة التي بناها وأقامها، السفير، 42 عاما (1974 – 2016)، عن تجاربهم، أنه كان على كفاءةٍ استثنائيةٍ في قيادة مشروع صحافي مهني ثقافي فكري سياسي، وذا فرادة خلّاقة في استثمار كل الطاقات، وكانت بلا عدد، والتي اجتمعت في هذا المختبر الذي صنَع نجاحا لبنانيا وعربيا لن يتكرّر، انتهى في لحظة تردّ عربي ولبناني فادحة. ويجوز القول، في هذا المقام، إن الراحل لم يكن فقط مدرسةً في الصحافة، طيّبة المذاق، والجذّابة التي تنشدُّ إليها العقول والأفهام، وإنما كان مدرسةً في إدارة المؤسّسات الصحافية، الإدارة التي تُدرك شروط النجاح والتميّز، وتعرف وسائل النجاة من عطب الركاكة والعاديّة والبلادة، وغير ذلك من ألوان الرداءة التي يضجّ بها الفضاء الإعلامي العربي في راهنه قدّامنا.
هذه واحدةٌ من مزايا عديدة في الراحل الذي ودّعه أصدقاؤه وقرّاؤه وأصحابه وتلاميذه وزملاؤه في لبنان وبلاد عربية عديدة بشجنٍ غزير، وبتذكّر كثيرٍ مما كانت عليه شخصيتّه، وما فاضت به عطاءاته، وما أنجز وأضاف. وتأتي عليها سطور هذه المقالة للتأشير إلى عصر ذهبي عبرت فيه الصحافة العربية، كان من أعلامه طلال سلمان وقلائلُ من قماشته، وهو الذي طافَ في مهنة الصحافة، بدءا من عتباتٍ أولى، مصحّحا، ثم مندوبا يتابع أخبار القضايا في المحاكم (وهذه من أهم ما يزود الصحافي بذخيرة معرفية، اجتماعية وسياسية ضرورية، بحسب محمد حسنين هيكل)، قبل أن يتولّى مهمّاتٍ في التحرير، ومواقع في إدارة التحرير في غير مجلةٍ أسبوعية عمل فيها، وكاتب مقال وتعليق سياسي. وفي ظنّي أن بداياته وبواكيره تلك صقلت مواهبه، وأبانت قُدراته وملكاته، سيّما وأن المناخ السياسي اللبناني والعربي في خمسينيات القرن الماضي وستّينياته استثار في أستاذنا، إبّان شبابه ذاك، المشاعر القومية والعروبية ضد الاستعمار واعتناق قضية فلسطين قضيةً مركزية، وقد أقام الرجلُ حتى وفاته على ما استزاد به في عشرينياته تلك، وإنْ تبقى لنا مؤاخذاتُنا على خيارات واصطفافات انحاز إليها في غير مسألةٍ، ومن ذلك أننا وجدناه في الموضوع السوري في غير الضفّة التي تُرضينا. ولكن يُحسَب له أنه أتاح للمثقفين السوريين، بجميع حساسياتهم ومواقفهم صفحات “السفير”، وما قصّر كثيرون فيها في تشريح الديكتاتورية في سورية، بل حدث غير مرّة أن الأخبار في الصحيفة عن سورية تلوّنت بالانحيازات إياها مع السلطة هناك ضد “المؤامرة” على الدولة السورية، فيما كانت صفحات الثقافة في الأعداد نفسها تضربُ في السلطة وقمعها الثوّار المنتفضين.
وتكرارا، شمائل طلال سلمان المهنيّة عصيّة على العد، غير أن سطور هذه المقالة تُختتم بالتأشير إلى واحدةٍ منها، من النادر أن تلقى مثلها لدى كثيرين ممّن في مواقع قيادة مؤسّسات صحافية وإعلامية، وأعني قناعته الحقيقيّة الجدّية والجادّة (التشديد على هذه الصفات الثلاث ضروري) بالثقافة والفنون في “السفير”، واهتمامه الخاص والشخصي بالمحتوى المهني العالي فيهما. ومعلومٌ أن الغالبية (الحق أنهم أكثر من الغالبية) من كتّاب الرواية والقصة والشعر والمسرح اللبنانيين، وبعض العرب (سعدالله ونوس مثلا) عملوا سنواتٍ في “السفير”، ولو جزئيا، أو داوموا على الإسهام بمنتوجهم فيها. ومعروفٌ عن سلمان أن صداقاته كانت واسعة مع كتّاب الأدب وأعلامه العرب (غسّان كنفاني ومحمود درويش وعبد الرحمن منيف … إلخ). وله دلالتُه أنه أطلق مع زميله رفيق خوري، وبالتعاون مع صاحب دار الآداب، سهيل إدريس، في عام 1961، إبّان عمله في مجلة بيروتيةٍ، مسابقةً في القصة القصيرة. ولعل تلك الأناقة في عبارته في مقالته السياسية الرائقة تعود إلى تلك الأُلفة التي أقامها، عقوداً وعقوداً، مع الأدب.
المصدر | العربي الجديد