منذ اكتشاف تقنية التصوير الفوتوغرافي، وانتشار الكاميرات بين أيدي الناس، أخذت الصورة تتمتع ببلاغةٍ أشدّ من القول، وبصدقية أرفع من الكلمة، ومثّلت على الدوام دليل إثبات موثوق، يُؤخذ به قرينةً على صحّة الاتهام في ساحة القضاء، كما شكّلت، في الوقت ذاته، أداة توثيق يُعتدّ بها لدى المراسلين والكتّاب في عالم الصحافة والإعلام، إلى الحد الذي قيل فيه إن الصورة بألف كلمة، خصوصاً إذا تعلق الأمر بواقعةٍ أو حدث جرى في بقعة بعيدة عن أعين القرّاء والمهتمين، واحتاجت القصة الإخبارية إلى برهان، ليس مثل الصورة سنداً له.
إذا كان هذا التقدير مقبولاً في زمن الأسود والأبيض، وقاطعاً مع تقدّم صناعة التصوير بالألوان فيما بعد، فما بالك ونحن نعيش اليوم في عصر ثورة المعرفة، وتعاظم تكنولوجيا الاتصالات الرقمية، سيما مع انتشار كاميرات الهاتف المحمول، التي منحت أي إنسان القدرة على التحوّل إلى مراسل صحافي وشاهد على الحدث، باستطاعته أن يحمّل مقطع فيديو من عين المكان، كما جعلت هذه التقنيات، بما فيها الكمبيوتر، العالم أصغر مما كان عليه في أي وقت، وفوق ذلك ألغت المسافة بين أي نقطتين، في العالمين الواقعي والافتراضي.
تُساق هذه المقدّمة المطوّلة للقول إن معركة الصورة الجارية مع الاحتلال الإسرائيلي، سيما في زمن الصهيونية الدينية، باتت أفعل من ذي قبل، وقد تكون أشد ضراوة من المواجهات المتفرّقة على الأرض، وإن الأحداث المبثوثة على شاشة التلفزيون ومنصّات الإعلام الحديث ليست أقلّ أهمية من المجريات المتلاحقة في الميدان، وإن الكاميرا عالية الجودة، بما في ذلك كاميرات الهاتف النقّال، صارت سلاحاً أمضى من البندقية الآلية أحياناً، في إطار الحرب المستمرّة على كسب تأييد الرأي العام، الذي كثيراً ما كان يجري تضليله بالأكاذيب والأضاليل والدعاية الملفّقة، استناداً على الروايات الإخبارية المزيّفة، وشهادات مراسلين مزوّرين.
منذ حضرت الصورة بأشكالها الثابتة والمتحرّكة، وأخذت مكانها الرقابي في ساحة المقاومة ضد قوات الاحتلال المدجّجة بالأسلحة الفتّاكة، سيما في زمن انتفاضة الحجارة أواخر الثمانينيات، انفتح باب كفاح جديد أمام الفعاليات الشعبية، وصارت بين أيدي المقاومين والنشطاء أداة نضال ناجعة، ليس فقط في مجال الدفاع عن النفس، وحماية المواطنين من العربدة والبطش، وإنما أيضاً في إطار الهجوم الناجح على الصورة التي سعت دولة الاحتلال إلى تكوينها عن نفسها دولة ديمقراطية متحضّرة، ومن ثمّة ترويجها عن جيش ذي أخلاقيات عالية وقيم رفيعة، ناهيك عما أسمتها “طهارة” سلاحها.
منذ فوز اليمين الفاشي في دولة الاحتلال بأغلبية مقاعد الكنيست، وإقامة أعتى حكومة متطرّفة في تاريخ الدولة العبرية، قبل نحو تسعة أشهر، وقعت أحداث رهيبة عديدة، أهمها في جنين ونابلس، وثّقتها الكاميرات أولاً بأول، ونقلتها شبكات التلفزة إلى أنحاء العالم، فكانت حصيلتها الفورية كسباً صافياً لصالح المقاومة بكل أشكالها المشروعة، بما في ذلك المقاومة المسلحة، على نحو ما تجلّى في المنظمات الحقوقية والأمم المتحدة وشبكات الإعلام الغربي.
ومع أن مئات الوقائع المماثلة، الدالّة على إرهاب الدولة المنظّم، جرت بعيداً عن الأعين ولم تسجّلها الكاميرات، إلا أن الصور المبثوثة عن دمار مخيم جنين وتهجير سكانه تحت القصف كانت كافية لتبيان مدى أهمية الكاميرا، والتأكيد على حيوية الدور الذي تؤدّيه الصورة، في إطار الصراع غير المتكافئ مع احتلال غاشم، بنى روايته على جملةٍ طويلةٍ من المزاعم والادّعاءات التاريخية، في غياب سرديةٍ فلسطينيةٍ موثّقة بالأدلة، في مقدّمتها الصورة، ما مكّن إسرائيل من احتكار دور الضحية، وتسويغ كل الفظائع، ناهيك عن تبرير جرائم المستوطنين بحقّ المدنيين في الضفة الغربية.
إزاء ذلك، يمكن القول، بثقة، إن الصورة باتت أهم من الأصل، وإن المعركة التي اشتدّت وتيرتُها في الفضاء الإلكتروني مع الفاشيين الجدد، لا تقلّ أهمية، عن المواجهات المسلحة والمعارك الدبلوماسية والقضائية المرتقبة، حيث يتوقّف ذلك كله على مدى نجاح الفعاليات الشعبية في تظهير المشاهد المبثوثة من عين المكان، وفي جلاء بشاعة وجه آخر احتلال في العالم. وفوق ذلك أن تتمكّن هذه الفعاليات من ترتيب أولوياتها، ومن عقلنة خطابها السياسي على الساحة الدولية، وأن تعزّزه بكامل صدقيّتها لتجريد إسرائيل من كل ادّعاءاتها الأخلاقية ومزاعمها الديمقراطية، وبالتالي زيادة عزلتها، وتقويض شرعيتها.
المصدر | العربي الجديد